منذ أسابيع قليلة تشرفت جامعة أم القرى باستضافة البروفيسور أوجانج رئيس جامعة ماليزيا، هذا الأكاديمي الإداري الذي تمكن عبر سلسلة قرارات جريئة وحازمة، وخطوات منهجية مدروسة، تمكن من نقل جامعته من مرتبتها المتدنية إلى أن تصبح سادس جامعة عالميا في البحث العلمي. كانت محاضرة أوجانج حول الأساليب الحديثة في التعليم العالي خلاصة ثرية لتجربة عمل مميزة، وقد تأملت فيما قاله، كما تأملت في سيرته ومسيرته، فوجدت أن نجاح الرجلِ مرجعه إلى أمرين مهمين: أولهما: أنه فرض رؤيته على الواقع، ولم يسمح للواقع بأن يتحكم في رؤيته، فقد كانت رؤيته أن تصبح جامعته رائدة في مجال البحث العلمي، ولذلك أصر على تقليل أعداد طلبة البكالوريوس لصالح الماجستير والدكتوراه، وأصر على ألا يتجاوز عدد طلاب الجامعة عشرة آلاف طالب، واعتذر عن قبول الرئاسة مالم تتحقق شروطه التي يراها ضرورية. وكان يرى أن كثرة الجامعات مع قلة عدد الطلاب في كل جامعة أولى من العكس. وثانيهما: وهو الأهم، أنه تحول بالجامعة من محضن (تعليمي) إلى محضن (ريادي)، والفرق بين الاثنين أن الأول يكسِب معرفة فحسب، والثاني ينمي مع ذلك مهارة، ويخرج منتجا، لقد استطاع أوجانج خلال أربع سنوات فقط أن يطلق 100 شركة للإبداع والابتكار من خلال طلاب جامعته وتحت مظلتها. وبذلك أصبحت جامعة ماليزيا للتقنية الأولى عالميا في ريادة الأعمال. هذا التوجه الريادي للجامعات يحقق لنا مصالح كثيرة. أولها: تخفيف العبء على الكادر الوظيفي الحكومي، فإن هذه المبادرات الريادية تحمل معها بشائرها الاقتصادية، وفرصها الوظيفية، سواء لأصحابها أو لمن سيعملون معهم. وثانيها: إتاحة الفرصة لحل مشكلاتنا، والاستفادة من فرصنا، فهذه المشاريع الابتكارية سيكون جزء منها بلا شك حلا علميا لإشكالات بيئية واقتصادية واجتماعية، كتخفيض استهلاك المياه مثلا، وتدوير النفايات، كما سيكون جزء منها استثمارا ذكيا لفرص تختص بها المملكة كموسم الحج، والعمرة الممتدة طوال العام، وغير ذلك مما تتفتق عنه أذهان الأذكياء حين توجد البيئة المناسبة. وثالثها: فتح الباب أمام الكفاءات والعبقريات التي يظلمها أحيانا النمط الجامعي التقليدي، هؤلاء كثيرا ما يضمرون وتضمر أحلامهم لأن المجتمع لا ىيحفزهم ولا يتيح لهم الفرصة. المنطق الريادي في التعليم الجامعي ييسر السبل لهؤلاء لتتحول أفكارهم المبتكرة إلى واقع يغنيهم ويغني مجتمعهم. ولئلا يظن أن هذا التوجه الريادي حكر على التخصصات العلمية والصناعية والطبية، فإنني أؤكد أن التخصصات النظرية: كالشريعة واللغة والتاريخ والاجتماع وغيرها، قابلة للتوجه الريادي، وما من تخصص منها إلا وأذكياء أهله قادرون على ابتداع أداء ابتكاري يسجل لصاحبه ولجامعته ويعود عليه وعلى المجتمع بالنفع ماديا ومعنويا.. هذه الثلاثية تجعل من نمط (ريادة الأعمال) هو الوجهة المستقبلية للجامعات. * مدير جامعة أم القرى.