أكد المفكر الإسلامي الدكتور عبدالحميد أبو سليمان أن الأمة الإسلامية تمر بحالة يرثى لها من التخلف على كل المستويات وبالذات الفكرية والثقافية، مشيرا إلى أن الأمة في هذه المرحلة لا تحتمل مزيدا من الضياع. وطالب في حوار أجرته معه «عكاظ» بعدم إضاعة المزيد من الوقت والمسارعة في خلق عمل فكري جاد عبر الأبحاث العلمية من أجل التوصل إلى فهم أسباب تدهور وضع الأمة والعمل على بناء حاضرها بناء علميا معاصرا يشمل جميع نظمها ومؤسساتها المختلفة. وأرجع مسؤولية ما حدث ويحدث للأمة الإسلامية من انتكاس حضاري انتهى بها من أمة بناء حضاري إلى أمة يؤصل فيها للخزعبلات والخرافات وإخضاع رقاب الناس واستعبادها لممارسات الاستبداد والفساد إلى كثير من أدبيات التراث على مدى القرون السابقة، فإلى نص الحوار: كيف تقرأ حاضر الأمة الإسلامية على كل المستويات؟ لا شك أن الأمة في حالة يرثى لها من التخلف وتخلف فكرها وثقافتها ومؤسساتها بشكل لا يحتمل مزيدا من ضياع الوقت للعمل الفكري بجدية للبحث العلمي في فهم أسباب تدهور فكرها وثقافتها ومفاهيمها ومناهجها التربوية والتعليمية وفي كيفية بناء علمي فعال معاصر لنظمها ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وعلى أساس من «رؤيتها الكونية الحضارية الإنسانية القرآنية». البنوك الإسلامية وغيرها من المنظمات والمؤسسات هناك من يرى أنها تقدم نظما إسلامية تقدم وجها معاصرا جديدا للإسلام، هل هي بالفعل منظمات ومؤسسات أحدثت تغييرا مهما في واقع الأمة؟ أم أنها مجرد كيانات شكلية؟ البنوك الإسلامية تدور حول الفائدة على أساس الربا، والحقيقة أن الفائدة هي مجرد أداة من أدوات النظام الرأسمالي ولا يمكن تغيير طبيعة أي نظام بالتعامل مع مجرد أداة من أدواته. ولكي نأخذ موقفا موضوعيا من أية قضية اقتصادية فإنه لا بد لنا أولا من معرفة فلسفة النظام وما يستبطن من علاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية والتي على أساسها يبني النظام ذاته، وبعد ذلك فإن طبيعة النظام هي التي تحدد الآليات والأدوات اللازمة لتجسيد بنية النظام والفلسفة التي يمثلها. أما من الناحية الإسلامية وعلى أساس فلسفة الإسلام الاقتصادية فإن «الربا» ليس هو مجرد الفائدة على القروض، بل هو في مفهوم الإسلام الظلم الاقتصادي بكل ألوانه، ولذلك دعى الرسول (صلى الله عليه وسلم) «المزارعة» أي المشاركة في إنتاج الأرض البيضاء ببعض الثمر على أنها «ربا» كما ورد ذلك في حديث رافع بن خديج (رضي الله عنه) حين مر به رسول الله، وسأله لمن الزرع ولمن الأرض قال خديج هي زرعي ببذري وعملي والأرض لبني فلان لي الشطر ولهم الشطر. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «خذ نفقتك ورد عليهم أرضهم لقد أربيتما». ولذلك فإن جوهر إشكالية ما يسمى بالبنوك الإسلامية هو اعتبار «الربا» لا على أنه قضية اقتصادية في جوهرها ولكن على أنها في جوهرها قضية فقهية تتعلق بشكليات العقود، مما أدى إلى توظيف الحيل لاعتبار القروض عقود «مرابحات» وغير ذلك من قضايا واعتبارات وشكليات العقود ولذلك كادت تنعدم في تعاملات البنوك الإسلامية تعاملات «المشاركة» مما أدى إلى تعظيم أرباح البنوك، بل إن ظاهرة ما يسمى «شراء القروض» أي زيادة قيمة القروض والتي تزاولها البنوك الإسلامية هي صورة من صور ما يسمى «بالمشتقات» أغرقت المقترضين في ديون تتعاظم مما يجعل المستدين يخرط في ديون لا يستطيع سدادها وهي التعاملات البنكية التي كانت سبب الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية وشراء الديون التي تعاظم الديون على من عجز سداد ديونه والتي ما زالت البنوك الإسلامية تنتهجها لتتعاظم أرباح البنوك وديون المستدينين. لهذا نجد البنوك الغربية تسارع لفتح أقسام البنوك الإسلامية وقروضها استفادة من المشاعر الدينية للمسلمين والمشاركة في الاستفادة الأكبر من أموال المسلمين وتعاملاتهم المالية. قضية الاقتصاد الإسلامي قضية طال إهمالها، والبحث العلمي الجاد لمعرفتها وإقامة نظام العدل والتكافل الحق لجميع بني الإنسان مسلما كان أو غير مسلم ملتزمين مفاهيم آيات الوحي ومستفيدين من حكمة «التنزيل» النبوي في العهد الراشد على واقع مجتمعاتهم لتجسد في ذلك الواقع وظروفه الزمانية والمكانية لتجسيد المجتمع المسلم وليقيم الحجة على أن الإسلام هو دين العدل والتكافل والسلام لبني الإنسان الذي يمكن تجسيده في الواقع الإنساني، وليس مجرد «مدينة خيالية فاضلة». ومن أمثلة إعادة التنزيل لمفاهيم القرآن على الواقع المتغير «التجديد» ما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في أرض السواد (العراق) حين جعلها أرض «خراج» ووضع ريعها في «بيت مال المسلمين» ليعود نفعه على حاجات أبناء الأمة جميعا، وذلك رغم قربه من العهد برسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأن ما كان يوزع في المدينة إنما هو قطع صغيرة للقمة العيش أما توزيع أرض السواد فإنه يخلق إقطاعيات وإقطاعيين. وقد حدث هذا «التجديد» على قرب عهد من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والعهد النبوي والراشد هو العهد المثالي الذي يسعى المسلمون لمقاربته وفق ظروفهم الزمانية والمكانية ما أمكن، وهذا هو مفهوم «تجديد الدين». لذلك قبل أن نأخذ موقفا موضوعيا من قضية الفائدة والبنوك الإسلامية وكيفية التعامل معها يتوجب علينا أولا فهم فلسفة الإسلام الاقتصادية ونظامه وأدواته في «التنزيل» وعلى ضوء «حكمة» العهد النبوي والراشد وذلك لإعادة تنزيلها وفق ظروف عصرنا وواقعنا وإمكانياتنا وسقوفنا المعرفية. وليس عبثا أن الله يخاطب أنبياءه أنه «يعلمهم الكتاب والحكمة» ويخاطب المؤمنين أن رسوله «يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم» البقرة 129. لذلك يجب على الاقتصاديين أن يقوموا أولا بواجبهم ثم يأتي بعد ذلك دور الفقهاء والقانونيين لتحويل ذلك الفكر إلى ضوابط وقواعد وقوانين تتعلق بإقامة النظام الإسلامي وإدارة الأموال ومؤسساتها وتبادلاتها لإقامة العدل ومنع جميع أنواع الظلم الاقتصادي «الربا». كيف تقرأ من زاوية فكرية ردة فعل الأمة الإسلامية شعوبا وحكومات على الفيلم المسيء للرسول الكريم؟ لا شك أن ردة فعل الجماهير المسلمة للفيلم الساقط في محاولة النيل من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما في جوهرها تعبير عن حب دين الله أو حب لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وسخط على ذلك الفيلم الساقط وسواه مما يتجرأ به كثير من أعداء الإسلام من الأعمال الفنية الساقطة بدءا برواية رشدي ومرورا بالرسوم الكاريكاتيرية إلى هذا الفيلم الساقط. والذي يستحق الإشارة هنا أن ما جرى من أعمال العنف لا تخدم قضية المسلمين بل لعله يعظم محصول أعداء الإسلام. كما أن من المهم أن ندرك أن استخدام الفنون كالشعر والروايات والرسوم «الكريكاتيرية» ليست قضية «حرية تعبير» بل هي من باب «حرية القذف والشتيمة والسباب» والنيل من كرامات الآخرين. فالقارئ لهذا اللون من البذاءة يهدف لأن يستغل انغماس القارئ والسامع في متابعة الحبكات الفنية ليتقبل ما يوحي إليه العمل الفني البذيء دون محاكمة عقلية، وهو بعد غير بعد الكتابة العلمية والنقاش العقلي الذي يحاكمه القارئ للتعبير المباشر في الموضوع بعقله ويسعى لعرض ما يعتبره حقيقة، ولذلك فإن القرآن ذاته لم يكن يخشى تعبير المنكرين للإسلام عن وجهة نظرهم في الإسلام، ولذلك أورد القرآن الكريم ذاته ما كان يوجه إلى الإسلام والقرآن ورسول الإسلام من تهم ويرد عليها ومن ذلك قولهم «إنما هو قول ساحر» وإنما هو «قول افتراه» وغير ذلك مما أورده القرآن ورد عليه كثير. ومن المناسب هنا لتوضيح هذه القضية التذكير ببعض الأمثلة من هذا «السباب والشتم الفني» في تاريخ الأمة التي أسيء بها توظيف الأساليب «الفنية» في شتم الآخرين والنيل من أعراضهم وكرامتهم. ومن هذه الأمثلة الأبيات الشعرية التي قالها جرير في هجاء الفرزدق والتي ما زلت بعد مضي القرون باقية في ذاكرة الزمن حين يقول: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار فلو قال جرير في هجو الفرزدق أنه وقومه بخلاء لا يكرمون الضيف وأنهم من بخلهم يستخدمون بولهم لإطفاء النار فبالتأكيد ما كان لأحد أن يذكر ذلك السباب، بل لعل السامع أن يستهجن ذلك، ويصم أذنه عن سماعه. ومثل آخر من الشعر أشد وأنكى، وهو الذي نظمه المتنبي لضغينة في نفسه منذ أكثر من عشرة قرون في هجاء كافور الإخشيدي حاكم مصر والذي ما تزال تحفظه ذاكرة الزمن حتى اليوم، وما بقي للفنون وللغة العربية حياة وبقاء. إن من يشتمني أو يشتم عزيزا لدى مثل أمي أو أبي أو أختي أو ابنتي بشتائم مقذعة فإما أن يكون هناك قانون يدينه ويقتص منه لكرامتي وكرامة من نالته الشتيمة وإلا وجدتني أشبعه ضربا بذراعي أقتص به منه. لذلك من غير المفيد لهذا السيل من القذاعة والإساءة والضغينة والنذالة باستخدام الفنون أن يطلب من السياسيين الاعتذار عن بذاءات مواطنيهم، بل لا بد للمسلمين وشعوبهم ودولهم وبالأساليب الدبلوماسية السليمة الطلب إلى سلطات هذه الدول إصدار القوانين التي تمنع مثل هذه الممارسات الكاذبة المسيئة البذيئة، ولكن علينا أن نعلم أيضا أن مجرد الطلب من هذه الدول إصدار القوانين وحال دول الأمة على ما هو عليه من ضعف وتناحر وتخاذل لن يكفي لأن تصدر الدول الأجنبية وخاصة الغربية مثل هذه القوانين، بل لا بد للأمة من ضغط فعال يؤثر على مصالح هذه الدول من قبل أبناء جميع بلاد الأمة الإسلامية وشعوبها. وهناك مجالات كثيرة للضغط على المصالح عامة، ولكن أهم مجالات الضغط هي المصالح الاقتصادية. ولذلك فالأولى من هذه المظاهرات وما قد يشوبها من تصرفات الجهلة والعملاء المندسين فإن الأولى لهذه الجماهير المحبة لدينها ونبيها والحريصة على مقدساتها أن يقوم أفرادها بمبادرة سلمية شخصية فردية لا يمكن لأحد أن يمنع أبناء الأمة من مزاولتها. وهذه المبادرة هي مبادرة المقاطعة الاقتصادية لمنتجات هذه الدول وللحصول على البدائل من منتجات البلاد الصديقة الأخرى ولا يستثنى إلا ما هو ضروري غاية الضرورة ولا بديل له في جميع بلاد العالم، وهو أن حدث فإنه أمر نادر ولعدد محدود من المنتجات. ويجب أن نعلم أن قرشا واحدا في اقتصاد أي بلد فإنه يعدل أربعين قرشا أي أن تأثير المليون يساوي أربعين مليونا والبليون يساوي أربعين بليونا والألف بليون يساوي أربعين ألف بليونا والمائة ألف بليونا يساوي أربع مائة ألف بليونا، وباستطاعة أبناء الشعوب البالغ تعدادهم ألفي بليون نفس أن يفعلوا ذلك القدر وأكثر . إن إصدار مثل هذه القوانين أمكن للحركة الصهيونية بما لديها من وسائل أن ترغم الدول الأوربية تجريم أي نيل من كرامة اليهودي وشتم يهوديته. أما أعراض الأمة الإسلامية وشعوبها ومقدساتها فإنها «سداح مداح» ينال منها ويلغ فيها كل من يشاء، وما للدول الغربية وكثير غيرها من مصالح اقتصادية وتجارية في العالم الإسلامي كفيلة أن تدفع حكومات هذه الدول أو أي دول سواها أن تدفع مؤسساتها التشريعية لسن قوانين رادعة لكل من ينال من مقدسات الإسلام خاصة والأديان عامة كما تحمي مؤسسات هذه الدول التشريعية من تعديات كل من ينال من كرامة شعوبهم وفق طبيعة ثقافتهم كالذوات الملكية أو حتى الأفراد حين يقدم أي أحد كان على تركيب صور فوتغرافية لأي أحد كان وتنشر هذه الصور الفاحشة والمخلة البذيئة فإن من يفعل مثل ذلك لن يفلت من عقاب القانون. هل أنت مع من يقول إن كتب التراث الإسلامي تتحمل جزءا من مسؤولية ما حدث للأمة؟ وهل لديك رؤية لتنقيتها مما علق بها من خرافات انتهت بالأمة إلى ما وصف به حال الأمة أنها بشكل عام أمست «كالسائمة» لا هم لها إلا أن تأكل لتعيش انتظارا للموت؟ ما هي مرئياتك التي بنيت عليها هذه النظرة؟ نعم أقول بأن كثيرا من أدبيات التراث على مدى القرون مسؤولة عما حدث ويحدث للأمة الإسلامية من انتكاس حضاري لينتهي بنا من أمة بناء حضاري إلى أمة يؤصل فيها للخزعبلات والخرافات وإخضاع رقاب الناس واستعبادها لممارسات الاستبداد والفساد. نحن نعلم أن الصدر الأول لم يكن يعرف إلا مفاهيم القرآن وحكمة تنزيل هذه المفاهيم في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وممارسات الخلفاء الراشدين وبعض الومضات التاريخية في حياة الأمة. وإلا كيف تخلفت الأمة وهزمت وخضعت لسطوة أعدائها والتقليد الفاشل لجميع ممارساتهم إلا بالركام الهائل من الجانب الغث من التراث واللهفة على الخروج من هذه الأزمة بالتقليد الأعمى للآخر المغاير. لا شك أن هناك ومضات تاريخية وتراثية وكان هناك قدرات فكرية وإبداعية مثل ابن حزم وابن رشد وابن تيمية وابن خلدون ولكنها همشت أمام مجرى نهر الفكر الراكد الذي ساد في فكر الأمة وثقافتها وهو ما يفسر ما نعيشه اليوم بسبب الانحراف والتقليد مما يشبه انعدام العطاء والإبداع والإتقان لدى جمهور الأمة ومؤسساتها الفكرية، ولنصبح على هامش الوجود والإبداع الحضاري وليس لنا من غاية في الحياة إلا أن نأكل كالسائمة لتموت. لذلك لا بد لمفكري الأمة من مراجعة شاملة لمسيرة الأمة ومسيرة فكرها وثقافتها منذ أن تغيرت القاعدة السياسية بسبب تحديات إمبراطوريات الفرس والروم وسواها وذلك حين استشهد وشاخ ومات جل جيل الأصحاب الذين مثلوا القاعدة السياسية لدولة العهد النبوي وصدر العهد الراشد لأن تلك القاعدة كانت قد مثلت العقيدة الصافية والحكمة النبوية ليبدأ عهد التدهور حين تم تجنيد «قبائل الأعراب» الذين وصفهم القرآن الكريم ووصف حالتهم التي يحتاج لإعادة بنائها لتحذر القبلية وما تمثله مفاهيمها من جهل وجهالة وعنصرية إلى جهد عظيم ووقت طويل. ولما لم يمكن إتمام ذلك في تلك الظروف كان لا بد من الانتصار الأموي القبلي وبداية مشوار التراجع وضعف الطاقة الإيمانية الروحية الحضارية التي تمثلت في الصدر الأول والذي كان لا بد أن ينهار بالحضارة الإسلامية. وصدق الله في وصف الأعراب في ذلك الوقت: «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم». (الحجرات الآية 14) و«الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم» (التوبة الآية 97). وكان لا بد أن تتفاقم أمراض العنصرية بامتداد الدولة الإسلامية إلى العديد من الشعوب غير العربية بما عرف «بالشعوبية» وهذه كلها أمراض ما نزال نعاني منها ومن آثارها على امتداد بلاد الأمة الإسلامية حتى اليوم. لذلك فإنه لن ينبثق نور الإسلام إلى ربوع الأمة وإلى الإنسانية إلا إذا انبثق نور الإسلام بالرجوع إلى مفاهيم كتاب الله وحكمة رسول الله واجتهادات الخلفاء الراشدين ومجمل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واجتهاداتهم وتنزيلها على واقع الأمة على عهودهم وهم الذين لم يستظهرون المتون والشروح التي تعكس في كثير منها فكر التخلف والانحراف الذي نعاني منه اليوم، ودون ذلك لا يمكن فهم ما كنا عليه وفهم ما انتهينا إليه. إن المطلوب الذي لا محيد عنه هو العودة إلى مفاهيم القرآن الكريم الذي يخاطب الفطرة الروحية السوية التي تتطلب من الإنسان السعي الجاد الدؤوب للحصول على حاجاته في الحياة، وفي الأرض التي استخلف فيها فردا وأمة؛ لأنه لا وجود للأمة إلا بالأفراد، كما أنه لا وجود للأفراد إلا بوجود الآخرين الذين يكونون الأمة. لهذا فإن ما يطلق عليه «الأصالة المعاصرة» أو «إسلامية المعرفة» إنما هي منهج فهم الإسلام الصحيح وتفعيله على مدى الزمان والمكان في الواقع الإنساني، لأنه بفهم الفطرة الإنسانية الفهم الصحيح نستطيع أن نفهم النصوص القرآنية وحكمتها والتي تحول الفهم الصحيح للفطرة الإنسانية أو ما يدعى اليوم «العلوم الاجتماعية والإنسانية من منظور إسلامي» إلى التزام أخلاقي وديني ليس في هذه الحياة فقط ولكن إثارة تمتد إلى الحياة الآخرة. (إن خيرا فخير وإن شرا فشر)، «وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله» (البقرة الآية 110). «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» (النحل الآية 97). وتحقيق «الأصالة المعاصرة» أو “إسلامية المعرفة» لها جناحان لا يمكن أن يحلق دونهما معا. الأول: هو فهم الأصل القرآني وفهم «حكمة» التنزيل النبوي أولا ثم مراجعة تراث الأمة لاستخلاص الدروس المستفادة من مجمل الممارسات والتطبيقات سواء الغث منها والثمين وذلك للاستفادة من هذه الدروس في إعادة بناء العقل المسلم في أبعاده العقيدية الثقافية والتربوية، وذلك للتخلص من الانحرافات والشعوذات والطائفيات في عقيدة الأمة وثقافة أبنائها وذلك حتى يمكن «التجديد الحقيقي» الذي يعيد تنزيل المفاهيم القرآنية بالشكل الفعال الصحيح على الواقع المعاصر المتغير في الزمان والمكان. والثاني: فهم الفطرة الإنسانية الفهم العلمي الصحيح، وبالتالي توظيف حقائق هذه العلوم، خاصة الاجتماعية والإنسانية وذلك لخدمة «الرؤية الكونية الحضارية القرآنية»؛ لأن العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة الغربية تحتوي على بعدين. البعد الأول: هو ما تم التوصل إليه من الحقائق العلمية. والبعد الثاني: هو توظيف هذه الحقائق لتجسيد الرؤية الكونية «المتوحشة» الغربية. ولتبسيط فهم هذين البعدين فإننا جميعا نتفق على أن «السكين» تقطع، أما ماذا تقطع؟ فهذا توظيف لهذه السكين لا علاقة للسكين به، فقد توظف السكين لإعداد الطعام وقد توظف السكين لارتكاب جريمة قتل ولذلك كما نفصل التراث عن الوحي ونفيد من حكمه ثمينه ونترك جانبا غثه، فإننا أيضا نفصل الحقائق العلمية التي توصلت إليه الإنسانية عن توظيفها الغربي المتوحش الذي يمثل قوانين الغاب، إلى حد الحروب العالمية التي هلك فيها مئات الملايين من البشر، حيث القوي يأكل الضعيف وهو تاريخ الغرب وحروبه العالمية «الاستعمارية» في تدمير الشعوب ونهشها واجتياح أراضيها والسيطرة على مقدراتها وكان ما يزال. وحتى تقوم الأمة بدورها الإصلاحي الروحي الحضاري فإن عليها أن تحول مفاهيمها، ومنهج فكرها، إلى مؤسسات علمية، وبحثية جامعية شمولية، لكافة فروع المعرفة، كما فعل ويفعل الغرب لكي تنمي الأمة فكرها ومؤسساتها وحصيلتها العلمية وتبني كوادرها الفكرية والعلمية والتربوية والاجتماعية الإسلامية بشكل فعال مستمر. ولذلك فإن ما تحقق في جامعات جنوب شرق آسيا في ماليزيا وفي إندونيسيا التي تبنت منهج «إسلامية المعرفة» أو «الأصالة المعاصرة» هو بداية الطريق، وقد أعطت تلك الجامعات ثمارا يشهد بها القاصي والداني. ولذلك فإن تبني هذا المنهج في العالم العربي الإسلامي أمر ضروري؛ لأنه يجسد النموذج المرغوب من ناحية ولأن معالجة ومراجعة تراث القرون لا يمكن أن يتم بشكل فعال، إلا في بيئة علمية عربية اللغة تلقائية الفهم الفكري واللغوي العربي. ندعو الله جل شأنه أن يوفق الأمة لأن تبدأ إعادة بناء الجامعات في العالم العربي أيضا مسيرة التعليم والبحث العلمي على ذلك المنهج العلمي الإنساني الإسلامي وأن يدفع بالخطوات الواسعة في إعادة بناء الأمة وتفعيل دورها في خدمة الإنسانية جمعاء. لقد تعرضت شخصيا لهذه القضايا الفكرية والتربوية ومواجهة كثير من السلبيات العقيدية وعقلية الشعوذة والخرافة بقصد استعادة مفهوم الاستخلاف الصالح الذي يعطي للإنسان المسلم معنى حياته وغايتها الروحية السامية لا الحيوانية الظالمة المفسدة التي يسعى بكل الجدية لتحقيقها للسعادة في الدارين. وهذه الكتب والتي يمكن أن يصل إليها القارئ هي وسواها مجانا على موقع المعهد العالمي للفكر الإسلامي الإلكتروني وهي كتاب «أزمة العقل المسلم» وكتاب «أزمة الإرادة والوجدان المسلم» وكتاب «الرؤية الكونية الحضارية القرآنية» وكتاب «الإصلاح الإسلامي المعاصر» وسواها من الكتب والأدبيات، لعل القارئ يجد فيها بعض بغيته. «الجزء الثاني» في الأسبوع المقبل. سيرة ذاتية الدكتور عبدالحميد أحمد محمد أبو سليمان من أبناء مكةالمكرمة، ولد بها عام 1355ه/ 1936م. تحصل في مكة على تعليمه الابتدائي والثانوي، وتخرج في مدرسة تحضير البعثات سنة 1374ه/1955م. حصل على بكالوريوس التجارة في قسم العلوم السياسية عام 1378ه/ 1959م من كلية التجارة بجامعة القاهرة. حصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية من كلية التجارة بجامعة القاهرة سنة 1381ه/1963م. حصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة بنسلفاني بفيلادلفيا في الولاياتالمتحدة عام (1393ه/1973م). عمل أمينا لاجتماعات المجلس الأعلى للتخطيط بالمملكة العربية السعودية ثم عضوا في هيئة التدريس بكلية العلوم الإدارية (كلية التجارة سابقا) في جامعة الملك سعود بالرياض (جامعة الرياض سابقا) ورئيسا لقسم العلوم السياسية فيها. من مؤسسي اتحاد الطلبة المسلمين في الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا والاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية ورئيس مجلس الإدارة الأسبق لمدارس منارات الرياض. الأمين العام المؤسس للأمانة العامة العالمية للشباب الإسلامي بالرياض بالمملكة العربية السعودية، الرئيس الأول ومؤسس لمعهد العالمي للفكر الإسلامي، والرئيس المؤسس لمؤسسة تنمية الطفل، والمؤسس والرئيس السابق لجمعية علماء الاجتماعيات المسلمين بالولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا، ومؤسس المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية في أمريكا. مؤسس ومدير الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا منذ عام 1988م وحتى عام 1999م. رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي. حصل على درجة الدكتوراه الفخرية في الأدب من جامعة هامدارد بنيودلهي في الهند عام (1422 ه / 2001 م). حصل على درجة الدكتوراه الفخرية في التربية من الجامعة العالمية الإسلامية بماليزيا عام (1428 ه / 2008 م). حصل على درجة الدكتوراه الفخرية في التربية من جامعة الإنسانية بماليزيا عام (1432 ه / 2011 م). له عدد من الكتب والأبحاث والأوراق العلمية والفكرية التي تهتم من المنظور الإسلامي بالتغيير وبالجوانب الإبداعية الإصلاحية للأمة في العقيدة والرؤية الحضارية الإسلامية وفي الفكر والمنهج والثقافة وفي التربية والوجدان المسلم. من مؤلفاته نظرية الإسلام الاقتصادية: الفلسفة والوسائل المعاصرة (1960م)، والنظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية(1973م)، وأزمة العقل المسلم (1986م)، وبالاشتراك في إسلامية المعرفة: الخطة والإنجازات (1986م) والعنف وإدارة الصراع السياسي في الفكر الإسلامي بين المبدأ والخيار: رؤية إسلامية (2002م)، وضرب المرأة: هل هو الفهم الصواب لحل الخلافات الزوجية ؟ رؤية اجتهادية قرآنية معاصرة (2003م)، وأزمة الإرادة والوجدان المسلم (2004م)، إشكالية الاستبداد والفساد في الفكر والتاريخ السياسي الإسلامي (2011 م).