تتكئ مناطق المملكة المختلفة على موروث حضاري وأثري يعود لمئات السنين، وتزخر بالعشرات من المواقع الأثرية التي يعود تاريخها إلى فترات موغلة في القدم. وللعديد من تلك المواقع حكايات تروى لتحفظها أثرا راسخا في أذهان الأجيال المتعاقبة. وفي هذا الشأن، سأضرب مثلا بمنطقة جازان؛ لمعرفتي المباشرة بها، فعلى امتداد الطريق من مدينة صبيا باتجاه الشرق تنتصب «العكوتان»، وهما جبلان بركانيان بهما بعض الآثار، وقد شكلا مادة خصبة لأحاديث المسامرة عند الرعاة وعامة الناس، حيث تمتزج فيها الحقيقة بالخرافة عبر حكايات تمتلئ بالمبالغات، تروى عن الكنوز المدفونة فيهما منذ أحقاب بعيدة، زعم بعضهم أنهم وجدوا شيئا منها، وآخرون يزعمون أن الجن تسكن هناك، ربما لمجرد تخويف غيرهم من الاقتراب منهما! لكن من الحكايات «الأجمل» التي تتداولها الألسن باستمرار مفسرة سر وجود الجبلين في ساحة ممتدة تخلو من سواهما من الجبال، واحدة تقول باختصار: إن الجبال من جهة اليمن كانت تحج عاما بعد عام إلى مكة، وفي إحدى السنين، نامت الجبال وهي في طريق عودتها من الحج في ذاك المكان، وساعة الفجر غادرت الجبال المكان ناسية طفلين من أطفالها، بقيا شاهدين على هذه المسيرة للتاريخ وللجغرافيا.. هذان الطفلان هما العكوتان: العكوة الشامية والعكوة اليمانية! .. وهناك حكاية أخرى جميلة عن العكوتين رواها لي الصديق الكاتب عمرو العامري، فقال: «من جهتنا جنوبا نحن نرى عكوة الجنوبية فقط، وحين كنت صغيرا، كنت أسمع أمي تهددني قائلة: والله لأطردك طردة امجبال لعكوة، فسألتها: ولم طردها إخوانها؟ فردت: إنها كانت (تتعيشق) لجبل آخر فطردها إخوانها».. ثم علق عمرو قائلا: «يبدو أنكم في جهتكم أكثر إيمانا، ونحن في جهتنا أكثر عشقا»! هي بالطبع حكايات خرافية تقوم على الإدهاش، وتجري أحداثها بعيدا عن الواقع، لكن ما يميز الحكايات الشعبية السابقة على بساطتها ومثلها كثير هو هاجسها الإنساني، إذ هي «تؤنسن» مفردات الكون، بما في ذلك الأثر التاريخي أو الجغرافي، لتبث فيه عنصر الإرادة والفعل والعاطفة، أي تبث فيه الحياة! إنني هنا تحديدا، أدعو القائمين على الملتقيات الثقافية ك(سوق عكاظ) ومسؤولي الهيئة العامة للسياحة بإمكاناتهم وجهودهم الثقافية الواعدة، أن يرصدوا إلى جانب كل «أثر» يهتمون به، حكايته (أو حكاياته) التي تضفي على وجوده الشيء الكثير، على ألا يكتفى في ذلك بما ينقل من الكتب والدراسات الأكاديمية، بل يعمد إلى فريق متخصص يرصد تلك الحكايات من أفواه الرواة الشعبيين وغيرهم. وإنهم إذ يفعلون ذلك يفتحون خزانا من الثقافة الشعبية لا ينضب معينه من جهة، ويحافظون على علاقة الإنسان الطبيعية مع بيئته ومكوناته الثقافية من جهة أخرى، وذلك من وجهة نظري بعد ثقافي جاد، يمنعنا من أن نتحول إلى مجرد «كائنات» ثقافية نتعالى على بيئتنا وآثارنا عبر التعامل معها من زاوية السياحة الترفيهية وحسب. لقد كان لتلك الحكايا دور حقيقي في تشكيل وعي الناس وإحساسهم ببيئتهم الجغرافية والتاريخية، وربما تبقى الحكاية الشعبية في أحايين كثيرة «المعلم» الأبرز لرصد كثير من الآثار التي طمستها السيول، أو زحفت عليها رمال الصحراء لتدفنها وتحولها إلى مجرد «حكايات» يحاول الباحثون الاسترشاد إليها من خلال ما وصلهم من مخطوطات ونقوش قديمة. أليست «الحكاية الشعبية» مثلها مثل الآثار المرتبطة بها جزءا من الحضارة والتراث الإنساني الذي يجب رصده والحفاظ عليه وحمايته؟ * كلية التربية جامعة الملك عبدالعزيز