بعض المدن ترغمك على الوقوع في عشقها وارتباط قلبك بها، وفي أحيان كثيرة لا تدري ما السبب، فقد لا تكون المدينة متميزة بشيء كثير عن غيرها لكنك مع ذلك تشعر بأوردة قلبك مشدودة إليها، وليس بالضرورة أن تكون المدينة ارتبطت بنشأتك وقضيت خلالها الفصل الأول من حياتك كما يعلل ابن الرومي سبب التعلق بالأوطان: (وحبب أوطان الرجال إليهمُ.. مآرب قضاها الشباب هنالكا). فأنت قد تقع في عشق مدينة تراها لأول مرة وأنت في سن الكهولة بعد أن ابتعدت عن الشباب فلا ذكريات سابقة لك فيها ولا قربى أو صداقة تجمعك بأحد من سكانها، لكنك تقع في حبها !!. المدن الجميلة والمميزة والمشهورة في التاريخ كثيرة، كثيرة جدا، بعضها مازالت باقية تنعم بمجدها، وبعضها دالت عليها الأيام وانقلبت ضدها الموازين فإذا هي تعيش داخل الأنقاض تلعق جراحها وتغطس في بحر اكتئابها بعد أن كانت موئل البهجة والانشراح. نهايات المدن البائسة تعني موتها، فغياب حضورها الباهر وحيويتها الصارخة يجعلها أقرب إلى جثمان مسجى يخلو من دفء الحياة ونبضها. ومن أشهر المدن العربية التي عدت ضمن الأموات بعد ما أصابتها النكبات فبدلت ازدهارها دمارا، أو بعد ما سرقت منها مدينة أخرى ما كان لها من الأضواء ووهج المجد كما حدث لمدينة بغداد عندما تعرضت للتدمير بسبب الفتن الداخلية والتنازع على السلطة في فترة من فترات الحكم العباسي بعد اجتياح المغول لها، ومثل ما حدث لمدينة البصرة بعد إحراقها أيام ثورة الزنج، أو مدينة القيروان بعد أن اجتاحتها بعض القبائل العربية أو غيرها من المدن العربية التي غزاها الصليبيون فدمروها. وحين يكون هناك تعلق بالمدينة وحب لها فإن ما يصيبها من دمار وخراب يبعث الألم في نفوس عشاقها الذين يرونها تنهشها الكلاب ويسكنها الخراب بعد أن كانت ملء السمع والبصر. لذلك يحفل الشعر العربي بأبيات متنوعة في رثاء ما دمر من مدن زاهرة ارتبطوا بها وأحبوا الحياة فيها، مثل ما قاله ابن رشيق القيرواني متحسرا على ما أصاب مدينته القيروان من دمار، وما يلفت النظر في أبيات ابن رشيق أنها تتضمن أفكارا مازال الكثير من الناس يرددونها في أيامنا هذه كلما رأوا كارثة تحل ببلاد ما، حيث يعللون ذلك بأن البلد استحق ما حل به من سوء، عقوبة له من الله على ما يرتكب فيه من الذنوب، يقول: ترى سيئات القيروان تعاظمت فجلت عن الغفران؟ والله غافر تراها أصيبت بالكبائر وحدها، ألم تك قدما في البلاد الكبائر؟. رحم الله ابن رشيق، فقد قال في بيتيه ما يحتاج إلى سماعه كل من خلا قلبه من التعاطف الإنساني واكتظت جوانبه بالاستعلاء والبغضاء. فاكس: 4555382-1 للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة