أعادني مسلسل «عمر» الذي تميز بالحوار الراقي مرسخا قيم العدل والحزم والمساواة للحاكم المسلم، وإن عاب السيناريو كثيرا من السقطات مختزلا خلافة الفاروق في ربع حلقاته، أعادني إلي «العبقريات» للأستاذ عباس العقاد وكيف أبانت تلك اللحظات العاصفة، بعيد وفاة الرسول عليه السلام، اختلاف شخصية الخليفتين العظيمين رضي الله عنهما، الصديق بكل وداعته والفاروق بكل حزمه. لك أن تتصور هول اختلاف أكبر صحابيين، بل بين الخليفة ووزيره الأول. كانا قد عادا للتو من سقيفة بني ساعدة، أول برلمان إسلامي، بعد أن ساهم الفاروق في تنصيب الصديق خليفة، غير أن هذا لم يمنع اختلافهما حول بعثة أسامة، رضي الله عنه، وكيفية مواجهة حروب الردة، حجة الفاروق أن الثانية تحتم تأجيل الأولى لعدم تعريض أمن الدولة الوليدة للخطر، ورأى مواجهة القبائل المرتدة بحسب درجة خروجها على الدولة، فبعض خرج من الإسلام بالكلية فهؤلاء يواجهون أولا، وبعض امتنع عن الزكاة فقط فيمكن إرجاء حربهم حتى عودة البعثة إذا أصر الصديق على إنفاذها. هذا ما كان سيقوله أي مفكر استراتيجي في تلك اللحظة الحرجة من حياة الأمة، بيد أن الصديق كان قاطعا في الأمرين، إنفاذ البعثة تنفيذا لأمر الرسول عليه السلام، ومحاربة كل المرتدين، ثاني الاثنين في الغار كان قد لمس وعايش بشائر نصر الله لرسوله وأنه لا شك بالغ وعده فلم يقبل المهادنة، بل إنه عنف الفاروق قائلا: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا عمر؟ وبعد أن انقشعت الغمة ذهب الفاروق وقبل رأسه قائلا لولاك لهلكنا أيها الصديق، فأجابه وأنت الفاروق يا عمر، أي أنه لم يذم موقفه، بل أيده وعارض توقيته وحسب. كان من الممكن لعمر، رضي الله عنه، أن يصر على رأيه خوفا على الدولة والدعوة، وكان من الممكن أن ينضم إليه من وافقه من الصحابة لتشكيل أداة ضغط على الحاكم الجديد أو جبهة مضادة، بل لم يفعل ذلك الصحابة الأصغر سنا أيام الفتنة الكبرى بين علي، كرم الله وجهه، ومعاوية والي الشام الذي رأى انتزاع الخلافة، لأنهم لم يعرفوا، رضوان الله عليهم أجمعين، نومنكلاتورا السياسة، التنازع والتناحر بين أطراف القوى السياسية داخل الدولة الواحدة، فهم خريجو المدرسة المحمدية الحريصون على وحدة الكلمة ووحدة الأمة، وإن اختلفوا أو تنازعوا في شيء ردوه لحكم الله ورسوله ولا يجدون في أنفسهم غضاضة في الرضوخ لذلك الحكم، هؤلاء هم من كان اختلافهم رحمة، وهؤلاء من كانوا قناديل الحق بأيهم اقتدينا اهتدينا، وتذكرون حديث صلاة العصر في بني قريظة وبداية التأسيس لفقه المقاصد في الشريعة. خذوا مثالا آخر وقارنوه بعالم السياسة اليوم، عندما تولى الفاروق الخلافة بعد الصديق، بدأ ومن فوره في اتخاذ قرارات تخالف ما كان عليه أبو بكر، لعل أشهرها عزل سيف الإسلام خالد بن الوليد، رضي الله عنه، لم يقل أحد أنه انقلاب على سياسة أبي بكر، أو أنه حركة تصحيحية لمسار الدولة، أو أنه رفض كان مبيتا لتلك السياسات، فهم الجميع أنه اختلاف في الرؤية وطريقة السير بالأمور وحسب، حتى مناظرة خالد مع الفاروق بعد عزله لم يأخذها أحد أبعد من ذلك، آتوني اليوم بحاكم يعزل رئيس أركان جيشه ثم يناظره في السبب، أليس الاغتيال أو النفي سيكون مصيره. مثال آخر، وأمثلة حكم الفاروق كثيرة، كيفية اختياره ومحاسبته لولاته، لن أذكر حادثة ابن الأكرمين وكيف عاقبه، أذكركم بمثال أبا هريرة الذي رأى سيدنا عمر أنه يكثر من ذكر أحاديث الرسول عليه السلام فرأى استخدامه في البحرين ولكن اشترط عليه بيانا بأملاكه ليسأله بعد ولايته سؤاله الخالد في تاريخ حكمه: من أين لك هذا؟ ذلك كان الصديق وذلك كان الفاروق، وتلك كانت الأيام يداولها سبحانه بين الناس والأمم، بذا كان حكمهما راشدا وبذا سادت أمتهما.