عاش عصاميا، وكرس حياته في خدمة الرسالة الإنسانية والمرضى الفقراء، ولد في مكةالمكرمة عام 1355ه ونشأ بين أحضان والديه كثاني خمسة إخوة ذكور وخمس إناث وقضى طفولته أمام أروقة الحرم المكي. إنه الطبيب الإنسان عبد الرحمن طه عبد الله بخش الذي غيبه الموت في أواخر صفر 1432 ه، ومازالت مآثره حاضرة في كل مكان. درس الفقيد الراحل د. بخش المرحلتين الابتدائية والمتوسطة في مدرسة الرحمانية والثانوية في مدرسة تحضير البعثات في مكةالمكرمة والتي نالها بتفوق حيث كان ترتيبه السادس على الدفعة، بعد ذلك التحق في كلية الطب بجامعة عين شمس في القاهرة وتخرج منها في عام 1962ه، ويعتبر أول سعودي يتخصص في مجال جراحة المسالك البولية. انطلقت مسيرته الطبية من عيادته الخاصة في جدة بعمارة الجمجوم عام 1972م ، وبعدها اتجه إلى إدارة وتطوير مستشفى دار الشفاء الذي شكل اللبنة الأولى في حياته ولمستشفيات مجموعة بخش. صلة الرحم ويقول عن الفقيد نجله الدكتور طه عبد الرحمن بخش: بالتأكيد نشعر بغياب الوالد رحمه الله في الشهر الفضيل فقد ترك في حياتنا مساحة كبيرة، ويختلف الحال عندما يكون الكلام عن رمضان حيث كان في هذا الشهر الكريم يحرص كثيرا على تعزيز صلة الرحم والتفرغ للعبادة، والتواجد في المستشفى لمتابعة سير العمل، وكان في طفولتنا يشجعنا على الصيام منذ السنوات الأولى، حيث كان يكافئنا إذا صمنا ساعات ثم نصف يوم وبعدها مع وصولنا إلى سن الصيام نصوم اليوم كله. وعن بدايات والده وشخصيته يضيف د.طه: «كانت حياة الوالد كتابا مفتوحا، وكانت مثل شخصيته بسيطة وعفوية، كان حريصا على الاجتهاد، ومجتهدا في دراسته، وسارت به رحلة الحياة إلى أن أصبح ضمن الستة الذين رشحوا للسفر إلى مصر للدراسة في كليات الطب بها، وحصل على الدكتوراه في تخصص طبي كان نادرا أن يتخصص فيه طبيب سعودي، كان متفانيا ومحبا ومخلصا في عمله ومثابرا ومجتهدا، ترك لنا تركة عظيمة قوامها القيم الأصيلة والسيرة العطرة، وهي القيم التي نحافظ عليها، إضافة إلى حب الخير». ويواصل د.طه: «على الرغم من أنني كنت أرغب في دراسة العلوم السياسية، لكنني فضلت الإدارة كي أحقق حلمه، وبعد عودتي من الدراسة عملت بجوار الوالد الذي شجعني على تطبيق العلوم التي درستها، وبدأت مسيرتي العملية معه، تعلمنا منه الكثير أنا وأخواتي، فقد أخذنا منه فضيلة الصبر وحسن الخلق، وفضيلة التوكل على الله في كل أعمالنا ومساعدة الأيتام، فقد كان الوالد رائدا في التعامل مع الأيتام والأعمال الخيرية. شخصية ديمقراطية أما ابنته رانية فقالت: كان الوالد رحمه الله نعم الأب ونعم الصديق، ربانا على مخافة الله ومراعاته في جميع تصرفاتنا، وعلى الأمانة والإخلاص والصدق في تعاملنا مع الناس، ربانا على احترام الكبير والعطف على الضعيف والمحتاج، ومراعاة إحساس الناس، كان ديمقراطيا من الطراز الأول، دائما يأخذ آراءنا في أي خطوة يخطوها من حياته أو حياتنا، يتعامل معنا كأننا كبار وناضجون وذوو رأي سديد، وأذكر أنني عندما كنت في الابتدائية وأريد أن أتغيب عن المدرسة في أي يوم من الأيام كنت أذهب إليه لأستأذنه فكان يرد «أنت كبيرة وتعرفين مصلحة نفسك، إن كنت تعلمين أن غيابك سيوذيك فلا تغيبي، وإن كنت تعلمين أنه لن يفوتك الكثير فغيبي» ، فكنت أفكر وفي غالب الأمر كنت أقرر الذهاب إلى المدرسة ولكن إحساسي أنه أنا من قرر، كان له المفعول العظيم في بناء شخصيتي وثقتي في نفسي واختياراتي، فرحمك الله يا أبي لقد افتقدتك كثيرا، افتقدت نصائحك وصدرك الحنون ويدك الدافئة. معادلة العطاء أما ابنته رنا فتقول: إن ثروة والدي الحقيقية تكمن في علاقاته وحب الناس له، لست أبالغ حين أقول إنني لم أقابل شخصا لديه من العطاء والحب لأبنائه وأولاده وللآخرين الكثير..الكثير هو أب بطبيعته لايعنيه العطاء شيئا. ومضت قائلة: «ربما هي الأقدار التي وضعته في دروب الطب ليس إلا لأنه معطاء حقا وقادر على ذلك بكل طبيعته، فأنا كابنة وكأصغر الأبناء أرى فيه الرجل الذي لم يتوان عن أن يبذل كل شيء حتى وإن اتهم بالتدليل، ولكنه العطاء دائما هو الذي ينتصر لأنها طبيعته الأولى، وأقول لك أبي لقد تمكنت في موازنة معادلة العطاء على أحسن وجه بين التدليل والتربية، فرحمك الله وأسكنك الجنة. قصة الحارس ويستطرد الدكتور عبدالله سالم عمير المدير الطبي قصة واقعية للفقيد فيقول: كان الفقيد د. بخش رحمه الله اجتماعيا من الطراز الأول، يفكر كيف يسعد الإنسان، كان باب مكتبه مفتوحا للصغير والكبير من عاملين ومراجعين، كان يقول دائما: «اقترب من الناس يقتربوا منك» ولذا كان دائما قريبا منا ومعنا. وأضاف: «من أكثر صفاته تميزا تواضعه الشديد، تشعر وأنت تناقشه أنك شريكه ليس في صنع القرار فحسب بل في امتلاك المنشأة، يمتلكك بهذه الصفة ويحتويك لدرجة يصعب رفض أي طلب له أو أمر منه». أذكر أنه ذات مرة كان يتفقد أقسام المستشفى لوحده، فأتى إلى جانب غرفة العمليات هاما الدخول فمنعه الحارس وكان شيخا مسنا فلم يغضب، وأتى إلى استقبال الأشعة فقام له العاملون للتحية وطلب منهم اصطحابه إلى قسم الرنين الذي كان المستشفى يجهزه (الموقع الحالي) وأحس الحارس الأمين أن هناك شيئا ما، فسأل عن هذا الشخص فقيل له: إنه صاحب المستشفى د. عبدالرحمن بخش وشعر بالخجل الكبير، ولكننا عرفنا بعد ذلك أن د. بخش طلبه في مكتبه وقدم له مكافأة من جيبه الخاص تقديرا على حسن أدائه لعمله. أصدقاء الثلوثية أما البروفيسور طريف زواوي فقال عنه: «كانت معرفتي به رحمه الله في البداية معرفة محدودة بإطار الإعجاب والاحترام لهذه الشخصية الحيوية والبناءة والمعطاءة، ثم ازدادت مع مرور السنين عمقا وأخوة ومحبة في الله بانضمامي للعمل في مستشفاه وبانضمامه إلى جماعة الثلوثية، حيث كان تواجده فيها إثراء للجميع، وكان شديد الحرص على حضور لقاءات أصدقاء «الثلوثية» والتواجد فيها، وارتبط مع أفرادها بأواصر من الصداقة والود والاحترام، وكانت له معهم أجمل الذكريات. ويمضي البروفيسور زواوي قائلا: «كان محبا للخير، مسهما في مجالاته المختلفة بكل قدراته وطاقاته وليس أدل على ذلك من أنه كان والمرحوم د.محمد عبده يماني حجري الأساس في جمعية أصدقاء مرضى السكري في جدة والتي كانت تعرف باسم لجنة أصدقاء مرضى السكري، لقد كان دوره فيها كبيرا وبصمته واضحة للعيان ماديا ومعنويا، حيث حرص أشد الحرص على حضور كافة الاجتماعات ومناقشة أفضل السبل لرعاية فقراء مرضى السكري». تطاول وإساءة ويتذكر الدكتور محمد مصطفى شلبي استشاري الجراحة موقفا عن الراحل فقال: حدث أن أساء أحد منسوبي المستشفى الحديث مع د. بخش وتطاول برفع الصوت واستخدم ألفاظا جافة، ودكتور بخش أعلى منه قدرا وأكبر منه سنا وهو صاحب العمل، إلا أنه ظل يعامل هذا الشخص بكل تواضع حتى بعد إساءته. تعميم للأطباء ويسرد الدكتور عباس الشيخ عمر استشاري الجلدية موقفا للراحل فيقول: «قبل 30 عاما كنت أقف بالقرب من كاشير العيادات الخارجية فجاء رجل مع طفله بعد أن أتم الكشف عليه من قبل طبيب أطفال بدأ العمل منذ أسبوعين فقط، فقال له المحصل 750 ريالا، فقال والد الطفل لماذا، ابني يشكو من إسهال لماذا هذا المبلغ؟ .. فأخذت الأوراق ودخلت لمقابلة د. بخش لأطلعه على الأمر فإذا به يأمر موظف الاستقبال بأن يصدر ملفا جديدا ويدخله على طبيب آخر، وأخبر والد الطفل بأن لا يذكر للطبيب أنه تحدث معه، وبعد دقائق جاء الرجل وهو يحمل فورمات التحاليل من طبيب آخر وكانت المفاجأة أن التحاليل كلفت 25 ريالا فقط، فغضب د. بخش غضبا شديدا وأمر المحصل بأن يرد له كل المبالغ ويصرف له العلاج على حسابه الخاص، وأمر في الوقت نفسه مدير التوظيف بأن يضيف فقرة جديدة في عقود الأطباء وهي: «لا يكلف الطبيب المريض بإجراء تحاليل وفحوصات غير لازمة».