أكتب لكم من فنلندا. هي الزيارة الثالثة لي إلى فنلندا وأرجو ألا تكون الأخيرة. المرة الأولى كانت قبل نحو من عشرين عاما، صاحبني فيها بضعة من طلاب الدراسات العليا في كلية الطب في جامعة الملك فيصل (جامعة الدمام حاليا) حيث رتبت لنا وزارة الصحة الفلندية بالاشتراك مع منظمة الصحة العالمية دراسة استطلاعية للرعاية الصحية في فنلندا. والزيارتان الثانية والثالثة كلتاهما لغرض علمي يتصل بالرعاية الصحية. أول ما يجتذب انتباهك في فنلندا مدنها وقراها على السواء النظافة والنظام. لم أهدأ إلا عندما عثرت بعد بحث طويل على عقب سيجارة ملقى في الشارع فشعرت ببعض الارتياح .. ها نحن وهم سواء مع فارق في الكم ! الفنلنديون لطيفو المعشر. مستعدون إلى تقديم المساعدة للغريب عن طيب خاطر. اللغة ليست مشكلة فالجميع تقريبا يتحدثون اللغة الإنجليزية، إذ يبدأ أطفالهم في دراستها من سن العاشرة. وفيهم من يتحدث بأكثر من لغة وبخاصة السويدية. إذا كنت تبحث عن جمال الطبيعة فلا تعدم أن تجده حيثما توجهت. هناك أكثر من 160.000 بحيرة بعضها يمتد بامتداد البصر والبعض الآخر كالحق. الخضرة في كل مكان، بعضها ترك للطبيعة ترعاه، والبعض الآخر تناولته يد الإنسان بالتشذيب والتهذيب. فنلندا كانت إلى نصف قرن مضى في المؤخرة من دول أوربا اقتصاديا واجتماعيا، أما اليوم فهي في المقدمة اقتصادا وتعليما وصحة. السبب أنهم أولوا جل اهتمامهم لتنمية الإنسان. تشير المقارنات الدولية إلى أن الطالب الفنلندي متفوق على أقرانه في دول العالم. حتى أن المثل أصبح يضرب برقى التعليم في فنلندا. ليس ذلك فحسب وإنما أيضا يشتهر التعليم في فنلندا بالعلاقة الوثيقة التي تربط المدرسة بالبيت. وفي دراسة أجريت وجد الباحثون أن الشعب الفنلندي من أكثر الشعوب إحساسا بالسعادة. ولا تسألني كيف قاسوها . نظام الضرائب التصاعدي يقرب المسافة بين دخول الأفراد كما أنه يحقق موارد مالية عالية للدولة تصرف منه على الخدمات العامة. الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم تتسم بقدر كبير من اللامركزية فالوزارات عليها التخطيط والتقييم والمحاسبة، أما التنفيذ فمسؤولية المناطق. فنلندا مقسمة إلى نحو من 400 منطقة (بلدية)، ولكل بلدية حرية التصرف في تنفيذ مشاريعها وبرامجها في إطار الخطة العامة للدولة. ومن ثم تحاسب على النتائج. وعندما سئلت رئيسة فنلندا في زيارتها قبل نحو عام إلى المملكة كيف تأتى لفنلندا أن تحقق ما وصلت إليه من رقي اقتصادي واجتماعي، قالت هما أمران أولهما القضاء على الفساد، وثانيهما الاهتمام بالتعليم.