فنلندا من أرقى دول أوربا اقتصادياً وصناعياً. تطورت في نصف القرن الأخير من بلد زراعي متخلف عن بقية دول أوربا الغربية لتصل إلى أعلى مستوى لدخل الفرد ومستوى المعيشة. عدد سكان فنلندا 5.4 مليون نسمة. وهي مقسمة إدارياً إلى 342 وحدة إدارية تسمى ... كل منها الكوميون (Commune ). الكوميون قد يكون قرية أو مدينة صغيرة أو ضاحية في مدينة. عدد سكان الكوميون يتراوح ما بين 10.000 نسمة إلى 100.000 نسمه. إذا نظرنا الى الرعاية الصحية في فنلندا نجد لكل وحدة (كميون) كبرت أو صغرت استقلاليتها المالية والإدارية، ولها ميزانيتها الخاصة بها , يأتي بعضها من الإدارة المركزية ( وزارة الصحة والشئون الاجتماعية في العاصمة هلسنكي ) والبعض الأخر من الضرائب المحلية. أول زيارة لي إلى فنلندا كانت قبل ما يقرب من 20 عاماً مع بعض طلابي في الدراسات العليا. شددنا الرحال إليها من أجل دراسة الوضع الصحي والرعاية الصحية في فنلندا بترتيب من منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة الفنلندية. وزارة الصحة والشئون الاجتماعية في العاصمة هلسنكي تضم عدداً محدوداً من الخبراء والاختصاصين في التخطيط الصحي والإدارة الصحية مهمتهم وضع الخطط العامة بما في ذلك الأهداف الصحية ومعايير الجودة. أما إدارة الخدمات الصحية فهي مسؤولية الإدارة المحلية (الكميون). سكان الكميون يختارون من بينهم أفراداً متطوعين , منهم الطبيب والمهندس والتاجر والصانع يشكلون فيما بينهم المجلس الصحي للكميون، مسئوليتهم تخطيط ومتابعة وتقييم البرامج الصحية في الكميون. من حقهم إذا شاؤا (وبدون أن يرجعوا إلى جهة أعلى) أن ينفذوا برامجاً لتدريب المساعدين الصحيين، أو ينشئوا مركزاً صحياً، أو ينشئوا جناحاً في المستشفى، أو يعينوا أطباء وممرضات. يتخذون قراراتهم بأنفسهم وميزانيتهم بين أيديهم يصرفون منها ويتحملون مسئوليتها. لهم الحق اذا شاءوا أن يتعاونوا مع وحدات أخرى مجاورة ينشئون معها برامج مشتركة بدون أن يرجعوا في ذلك إلى الوزارة في العاصمة هلسنكي. المهم هو أن يحققوا المستوى الصحي الذي رسمته وزارة الصحة في خطتها السنوية. هذا المستوى لا يقاس بعدد الأطباء أو الأسرة أو المراكز الصحية وإنما بالإحصاءات الحيوية التي تتمثل في معدلات الأمراض والوفيات. أعضاء المجلس الصحي في الكميون لا يهدرون أوقاتهم وطاقاتهم في تبادل المعاملات والخطابات بينهم وبين الوزارة. وإنما توجه جهودهم لتحقيق الأهداف المناط بهم تحقيقها. في المقابل يحضرني من بلادي موقف له دلالة. صديق لي تزوجت أبنته الطبية وأرادت أن تحصل على إجازة بدون مرتب لمدة شهر. أتصل بي صديقي لأتوسط لأبنته عند المسئولين في الوزارة فالمسألة لا يبت فيها إلا على أعلى مستوى إداري !!. ترى كم من الوقت والجهد والمال نصرفه نحن في المعاملات التي تذهب وتجيء بين الوزارة ومديريات الشئون الصحية، وتلك التي تدور بين مديريات الشؤون الصحية من جهة والمستشفيات والمراكز الصحية من جهة أخرى؟ أنقل فيما يلي ما جاء على لسان جراح قلب معروف في بعض ما نشرته الصحف من ذكرياته عن العمليات الجراحية التي كان يقوم بها لتغيير صمامات القلب لمرضاه " كنت أطلب تكاليف الصمامات بمعاملة طويلة تدور في فلك البيروقراطية القاتلة. ولولا أننا تلقينا دعما كبيرا من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله لكنا في موقف لا نحسد عليه من المرضى " . أسئلتي التي أود أن أطرحها : - ما الذي يمنع من أن تخصص لكل منطقة شئون صحية ميزانية يصرف منها على تنفيذ وتطوير الرعاية الصحية في المنطقة بدون أي تدخل من الوزارة، ومن ثم تحاسب المنطقة على ما أنجزته على ضوء معايير الجودة التي تضعها الوزارة ؟ - ما الذي يمنع من أن يكون لكل مستشفى ميزانية خاصة به اعتمادا على حجمه والتخصصات التي فيه وعدد الذين يخدمهم، يديره ويحاسب على أعماله مجلس إدارة بعض أعضائه من أفراد المجتمع ؟ - لماذا لا يكون لكل مركز رعاية صحية ميزانية خاصة يتولى الإشراف على صرفها مجلس إدارة من العاملين في المركز وبعض المواطنين الذين يخدمهم المركز ويحاسبون على النتائج ؟ - طرحت هذه الأفكار ذات مره على أحد المسئولين فا ستبعد إمكانية تنفيذها لأنه لا يوجد مديرون على قدر المسئولية.! عجبي !! وهل تراها عقمت؟ ولماذا لا نحسن اختيار المديرين ، وندربهم، ونضع كلاً منهم أمام مسئوليتهم؟ أذكر أني مع بداية حياتي الوظيفية عينت مديراً للتخطيط في وزارة الصحة. وفي اجتماع رأسه الشيخ جميل الحجيلان وزير الصحة آنذاك. قلت له بحماس الشباب .. مشكلتي معك يا شيخ جميل أنك الوزير وأنا موظف عندك. تبسم الشيخ جميل .. وقال .. قل يا بني ما في خاطرك. قلت .. هل تعرف أن عدداً من سكان المنطقة الشرقية يذهبون إلى البحرين للعلاج؟ (كان ذلك قبل أكثر من ثلث قرن) . قال لماذا؟ قلت لأن الرعاية الصحية في البحرين أفضل. سألني متعجباً وكيف ذاك؟ قلت لأن البحرين بالرغم من صغر حجمها مقارنة بأي منطقة شئون صحية عندنا. إلا أنه مسئول عنها وزير له حق التصرف. ولو أن كل مدير شئون صحية عندنا له صلاحية الوزير في التصرف لفاقت الرعاية الصحية عندنا الرعاية الصحية في البحرين بما لدينا من إمكانات. هكذا كان إيماني بأهمية عدم المركزية قبل ثلاثة عقود. وما زال إيماني بها قائماً حتى اليوم , وسيظل قائماً غداً وبعد غد. بدون اللامركزية التي يصاحبها المتابعة والمساءلة ويعقبها الثواب والعقاب لن نتمكن من الارتقاء بالرعاية الصحية إلى المستوى الذي نتمناه.