في الجزء الثالث والأخير من حواره ل«عكاظ» يتناول الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد عضو هيئة كبار العلماء وإمام وخطيب المسجد الحرام والمستشار بالديوان الملكي، مكانة العلماء ودور الأندية الرياضية في تقارب المجتمع والستر عند العثرات والمناصب المتعددة التي شغلها، ويؤكد أن أهم وأشرف وآثر منصب تقلده الإمامة والخطابة والتدريس في المسجد الحرام، مبينا أنها مسؤولية عظيمة كما أنها شرف لا يطاوله شرف وهذا يجعل المسؤولية عظيمة والحمل ثقيلا.. فإلى التفاصيل: • هناك أوامر صدرت من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يحفظه الله- بعدم المساس بسماحة المفتي وأعضاء هيئة كبار العلماء، كيف تقرأون هذا الأمر الكريم؟ • خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- حفظ مكانة العلماء واهتم بمنزلتهم، ولا يستغرب صدور هذا الأمر الكريم منه فهو يؤكد على ذلك دائما. إن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وملائكة الرحمن هم أعرف بربهم يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ورسل الله وأنبياؤه هم سادات الخائفين الذين يبلغون رسالات الله ويخشون ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله وكيلا، ثم يأتي بعد ذلك أهل العلم الربانيون فهم أهل الخشية، فالعالم الذي علم كبر المسؤولية والأمانة ويسعى في براءة الذمة فإن خوفه من الله وخشيته من مولاه على قدر ما يستشعر ويستحضر. وإن من ما يجسد ذلك ويبينه ذلك التوجيه الراشد والكلمة الصادقة التي خاطب فيها ولي الأمر خادم الحرمين الشريفين وحامي حماهما، وحامي الشرع المطهر.. خاطب فيها -يحفظه الله- العلماء والمسؤولين في الدولة من منطلق مسؤوليته الشرعية وإمامته الدينية. إشاعة الفتنة • هناك من يحب إشاعة الفتنة بين المسلمين ونشر الرذيلة، كيف تحذرون هؤلاء وتوجهونهم؟ • على الجميع التزام الستر وحفظ العورات وعدم التعرض أو النقد بأي حال من الأحوال لما يمس أحوال الناس، وهذا ينبغي ألا نجعل الستر إذلالا للمستور عليه، وهنا أحذر ممن يريدون أن تشيع الفضيحة والفاحشة بين المسلمين مع تعدد وسائل النشر من صحف ومجلات ومسرحيات وتمثيليات وقنوات وشاشات وهواتف محمولة وشبكات ومواقعها ومقاطعها. وعلينا أيضا أن نستر العورات والعصاة، وهذا الأمر يساهم في إخفاء الفساد، فليس في الإسلام كراسي اعتراف ولا صكوك غفران فمن اقترف من عباد الله ذنبا أو هتك بينه وبين ربه سترا فليبادر بالتوبة، والتائب من الذنوب كمن لا ذنب له والمرء قد تغلبه نفسه أو شيطانه فيقع في المحظور ويرتكب الممنوع، فمن ابتلي بذلك فليستتر بستر الله ولا يفضح نفسه فكل الأمة معافاة إلا المجاهرين، ومن المجاهرة أن يعمل الرجل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عليه. وللأسف هناك من يسترهم الله ثم يذهبون لفضح أنفسهم ويرغبون برد ذلك الستر، فالمؤمن يستر وينصح والمنافق والفاجر يهتك ويفضح فمن أحب إخوانه ستر عليهم وحفظ عليهم سرهم وزلتهم، إن المجتمع المسلم لا يخسر بالسكوت عن تهم الناس والستر على عيوبهم ولكنه يخسر كل الخسارة في إشاعة الاتهامات وتحريض الضعاف بالقيام بالفواحش وارتكاب الموبقات ونزع الثقة من الثقات وارتفاع الطمأنينة من البيوت في المجتمع. • تنقلتم بين الديوان الملكي والقضاء والشورى والتعليم والإفتاء وإمامة وخطابة المسجد الحرام، أي من هذه الأماكن وجدتم فيها دورا أفضل لكم؟ • هذه مواقع عمل شاء الله عز وجل بحكمته أن أكون فيها وهي مسؤوليات اجتهدت أن أقدم ما أستطيع مستعينا بالله عز وجل أولا وآخرا ثم بإخواني وزملائي في هذه المواقع من الأعضاء والإداريين وقد كانوا نعم العون مع يقين المرء أن الكمال عزيز والعصمة لأنبياء الله فيما يبلغون عن الله. ولا شك أن أهمها وأشرفها وآثرها عندي الإمامة والخطابة والتدريس في المسجد الحرام فهي مسؤولية عظيمة كما أنها شرف لا يطاوله شرف، وهذا يجعل المسؤولية -كما قلت- عظيمة والحمل ثقيلا أسأل الله العون والتسديد وأن يكون المرء عند حسن ظن ولاة الأمر جزاهم الله خير الجزاء وأحسن اليهم فيما يولون من ثقة وتقدير وعناية وقد أكرمني ولي الأمر أعزه الله بالقرب منه وهذه منزلة لها مكانها ومكانتها مما يزيد في المسؤولية أسال الله العون والتسديد للجميع. ردود الدعاة • يقوم بعض الدعاة بالرد على بعضهم البعض في أمور فرعية ويدحض كل فريق رأي الفريق الآخر دون الرجوع إلى العلماء الراسخين وتبدأ بينهم وبين محبيهم التراشقات هنا وهناك. فما نصيحتكم؟ وكيف نجمع الاختلاف في الآراء والأفكار؟ • تفرق الكلمة سبب للفشل وذهاب القوة والهيبة «وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين». بل قد يحول النصر إلى هزيمة «سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين». والأمة اليوم في أشد الحاجة إلى جمع الكلمة ورص الصفوف، واستثمار كافة الطاقات، ونبذ كل فرقة بنيت على خلاف اجتهادي، أو على خلاف قطعي لا يخرج عن ملة الإسلام لدفع عدد أكبر يريد إهلاك الحرث والنسل، ما أحوجها إلى ترك بنيات الطريق. فإن رواد الأمة يقفون على أرض راسخة من البصيرة والورع لا يستفزهم الجدل، ولا تثيرهم أهواء الناس، بل تراهم يأخذون بحظ وافر من النصيحة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وليس كل أحد يستطيع أن يبصر مآلات الأمور، وليس كل مبصر لها قادرا على درئها. وإن الرجل المبارك ليرى المرجل يغلي بين الصفوف، فيعينه ربه عز وجل على امتصاص الفتنة وإطفاء لهيبها، بما أتاه الله من الهدى والحكمة والأفق الواسع؛ فهو يتجاوز ظواهر الأعراض وينفذ إلى بواطنها، وينطلق من سطحية الأسباب إلى جوهرها، وصدق الإمام ابن القيم: «نور العقل يضيء في ليل الهوى فتلوح جادة الصواب، فيتلمح البصير في ذلك عواقب الأمور»، ولئن كان بيان الحق واجبا والسكوت عن الخطأ منكرا، فإن الناصح المشفق من أهل العلم والتقى يستصحب بقية المصالح، ويدرأ ما أمكن من المفاسد، وينظر بعين المصلح الذي يرعى المقاصد الشرعية المأمور بها جميعها، فيقدم أولاها وأقربها لمراد الله عز وجل ومرضاته. ولهذا كان الأئمة يتركون بعض الرأي والعمل الاجتهادي رغبة في اجتماع الكلمة ودرءا للفتنة، اهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وقال في تفسير ذلك لعائشة رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض». الجيل المسلم • وماذا يحتاج إليه الجيل المسلم في هذا الوقت؟ • إن أبناء الجيل المسلم الصادق بحاجة ماسة إلى التربية الإيمانية والعلمية التي تهذب النفوس وتقودها إلى الاتزان البصير في اجتهاداتها، والاعتدال الراشد في مواقفها وردود أفعالها، وغياب هذه التربية سيجعلها عرضة لمزيد من التمزق والتشتت، أعاذنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وإن وسائل الإعلام -خاصة ما يتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات في شبكات المعلومات- جعل الإسهامات متعددة بل متكاثرة لأفكار لا تخضع لضابط أو مرشد وموجه، وهنا تزداد المسؤولية فإن كثيرا من هؤلاء المتداخلين والمدونين والمغردين ليسوا من ذوي الاختصاص في القضايا المطروحة، سواء أكانت علمية أو اقتصادية أو تربوية أو اجتماعية أو غيرها فتكون هذه المداخلات والإسهامات غير ذات جدوى أو فائدة وهذا يجب التنبيه له وملاحظته، ويزداد الأمر خطورة حين نقدم هذه المداخلات والمشاركات وكأنها أمور قطعية لا تقبل الجدل، ناهيكم إذا قدمت بأساليب متشنجة وعبارات متشددة بل أحيانا بألفاظ مفزعة واتهامات متبادلة وتنقيص ودخول في الشخصية كما يقال وحينئذ يخرج النقاش عن أهدافه وتزداد الشقة. الحكمة في الدعوة • كيف تكون الحكمة في دعوة الناس؟ • إن الحكمة في الدعوة تقتضي الحرص على النظر في طبائع نفوس المدعوين، وتخير الأوقات المناسبة لهم وانتهاز المناسبات، إضافة إلى التعرف على ظروفهم وأوضاعهم ومراعاة التدرج معهم وترتيب الأولويات. الحكمة نوعان: علمية نظرية، وهي الاطلاع على بواطن الأمور ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها ومرجعها العلم، والنوع الآخر عملية، وهي وضع الشيء في موضعه ومرجعها العدل والصواب. وكمال الإنسان في أمرين أن يعرف الحق ويعمل به أي علم نافع وعمل صالح، وكل صواب من القول والفعل حكمة. كما أن الموعظة الحسنة هي قول لين ليستعد المخاطب لفعل الخير، وهناك فرق بين الحكمة والموعظة، فالحكمة لا تكون إلا حسنة أما الموعظة فلا بد أن تكون حسنة ولينة لأنها للردع والتنبيه على الموعوظ. قول حسن • لكن ما معنى الجدل المذكور في الآية الكريمة المعروفة؟ • معنى الجدل دفع المرء خصمه بالحجة ولا تكون إلا بالتي هي أحسن، واستثني منها الذين ظلموا، كما عدد حلية الداعية من خلال مجموعة من الصفات التي يتحلى بها، ومنها التقوى، والإخلاص، والعلم والتواضع والحلم. هنا يجب أن نشير إلى معالم الحكمة في الدعوة، وهي الحرص على النظر في طبائع النفوس، وتخير الأوقات وانتهاز المناسبات والتعرف على الظروف والأوضاع ومراعاة التدرج وترتيب الأولويات. كما أن أساليب الحكمة في الدعوة عديدة، منها القول الحسن والتصريح والتعريض مع البعد عن التصريح إذا أمكن التعريض، والنصيحة وهي تتضمن الإحسان لمن تنصحه، مفرقا بين المداراة والمداهنة في الدعوة، حيث إن المداراة صورة من صور التعامل الدال على الحكمة وحفظ الكرامة للداعي والمدعو فهي اللين والرفق في الدعوة، أما المداهنة فهي إظهار الرضا من غير إنكار أو الموافقة على ما يعمل. التوبة وتوقيتها • هل التوبة محددة في وقت واحد ولأناس معينين؟ كل عبد محتاج إلى التوبة، التوبة لا أحد يستغني عنها أحد مهما بلغ مقامه ومهما كانت طاعته وصلاحه، وهي خلق الأنبياء والمرسلين. التوبة النصوح تنقل العبد من المعصية إلى الطاعة ومن الضعف إلى القوة ومن الهدم إلى الإصلاح ومن الظلم إلى العدل والرحمة والإحسان، وبالتوبة يتجسد للعبد ذل الحاجة، وذل الطاعة والعبودية، وذل المحبة والانقياد، وذل المعصية والخطيئة، ومن اجتمع له ذلك كله فقد خضع لله تمام الخضوع، وحقق العبودية والاستكانة. الأندية الرياضية • هل على الأندية الرياضية دور تجاه تعزيز القيم الصحيحة؟ • نحمد الله أن نشاط أنديتنا متعدد رياضي وثقافي واجتماعي، إلى جانب نشاطها الرياضي وهذا شيء طبيعي لأن الرياضة هدفها بث الروح الرياضية في النفوس، فالأندية تقوم بهذه الأنشطة على أكمل وجه. ولا بد من تفعيل أنشطتها ومضاعفة جهودها في الأنشطة المفيدة والمهمة للتكامل مع الأنشطة الرياضية لتحقق أبرز أهدافها: سلامة الجسم وتنميته، وإشاعة الروح وسعة الصدر، فالأندية تبذل جهودا في هذا المجال تشكر عليها. يجب أن يكون هناك عمل مؤسسي ينطلق من الجهات المختصة التي يجب أن تتعاون لتغطية أكبر شريحة من أبناء المجتمع، وقد تنتقل إليهم الأندية أو هم يحضرون إليها، وهذا العمل المؤسسي سيحقق حلم الأندية. وسائل الاتصال • معالي الشيخ، كيف نسخر وسائل الاتصال الحديثة في ما يفيد؟ • الله خلق السماوات والأرض بالحق، وأرسل رسله وأنزل عليهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأن أمور الناس وشؤونهم لا تصلح ولا تستقيم إلا بالحق، فنجاح الأمم وصلاح البشر يعود إلى جملة ما يقوم عليه الناس ويقدمونه من فعل الحق وقول الصدق وفشو العدل، وقد يسر الله لأبناء هذا العصر من اكتشافات واختراعات في وسائل الاتصال وتقنياته، من أنواع الهواتف وشبكات المعلومات وقنوات البث وغيرها من وسائل الاتصال والإعلام، من مسموعها ومقروئها ومشاهدها، وأنها وسائل خير لأهل الخير، توفر الأوقات، وتقصر المسافات، وتصل بجميع الجهات والاتجاهات، تستخدم في الصالحات والنافعات، من سؤال أهل الذكر، والفقه في الدين والتعلم النافع المفيد، وصلة الرحم والاتصال بالأخيار، وبذل النصح والتوجيه، والإفتاء والاستفتاء، والتثقيف والمتعة المباحة، ومواعيد الخير وإنجاز الأعمال، وحسن استغلال الأوقات ففضلها وخيرها غير منكور لمن وفق في حسن استخدامها والإفادة منها، ليتوفر فيها الجهد، ويحفظ بها الوقت، ويلبى بها المطلوب، وترفع شقة الذهاب والإياب، فلله الحمد والمنة.