ليس هذا حديثا عن فضائل وفوائد الصيام، لذلك رجاله من علماء الشريعة والطب، هو نظرة جانبية لفريضة تلامس القلب قبل العقل فتغسل فيوضها دواخلهما فتطهرهما من كل دنس، فتسبح الأنفس وتحلق في عبق جوها الروحاني الألق، كتب الله الصيام علينا وعلى من قبلنا، تختلف التفاصيل غير أن العنوان الأساس ظل واحدا، الصوم ممارسة للجهاد الأكبر، والجهاد كما نعلم ذروة سنام الإسلام، ولا يتم الجهاد الأصغر، الحرب في سبيل الله، إلا باجتياز الجهاد الأكبر ترويض النفس، الله سبحانه ليس بحاجة لعباداتنا من صلاة وصيام وزكاة وخلافه، لكنه كلفنا بها تزكية لأنفسنا الأمارة بالسوء المقرونة به وبالخير أيضا، وأعطانا القدرة لتمييز طريقي الهداية والغواية، يقول سبحانه «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها»، الله سبحانه ليس بحاجة إلى تجويعنا لكنه فرض الصوم واختصه من دون العبادات بأنه له وهو يجزئ به، لتعويدنا على الجهاد ضد رغبات النفس الدنيوية العاجلة، وترغيبها بالأعمال الصالحة للحياة الأخرى الدائمة. صفد سبحانه الشياطين في هذا الشهر الفضيل لنصارع رغباتنا بدون نزغ شيطاني، ولنقاوم عاداتنا السيئة التي ترسخت بتسلط الشيطان علينا طوال العام، هي وقفة للتيقن من صوابية قراراتنا، أهي نابعة من أنفسنا أم أن للشيطان دورا فيها، فرصة للتحرر من نزغ الشيطان لتحكيم العقل واتخاذ ذلك نبراسا طوال العام، والنفس من خيرها في خير عافية، والنفس من شرها في مرتع وخم كما قال شوقي، صراعنا ليس مع الشيطان وحده، ضد أنفسنا أكثر. رمضان ليس موسما للتخمة أو الفرجة ولكنه محطة للتزود، تزويد النفس بسلاح الصمود أمام مغريات الجسد، وخير الزاد هو التقوى، شهر رمضان معسكر تدريب لباقي شهور السنة، لترويض النفس للعيش بسلام، سلام داخلي مع الذات وسلام خارجي مع الآخرين، رمضان تلاوة قرآن وإطعام الطعام وهما وسيلتا السلام الداخلي والخارجي مع النفس. أنت لا تصوم لتشعر بجوع الفقير، هو فقير لسبب وأنت لست فقيرا لذات السبب، هو لم يعط فصبر وأنت أعطيت فشكرت والصابر والشاكر في الجنة، يقول الحق سبحانه «فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن، كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما، وتحبون المال حبا جما»، فاللهم لا تجعلنا منهم ولا من الذين لا يعلمون أن في أموالهم حقا معلوما للسائل والمحروم. من شكر النعم الإحسان بها وتشاركها مع الآخرين، والامتناع عن المعاصي التي تزيلها، ألا نقول اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال، بذلها سبيل دوامها ولا ينقص مال من صدقة، وشكر النعمة يكون بحسن المعاملة مع الآخرين أيضا، الأقل نعمة منك والأكثر، أليس تبسمك في وجه أخيك صدقة، أليست الكلمة الحسنة صدقة، ألم يشكك عليه السلام في قبول صيام مدمن الخمر والمشاحن، رمضان فرصة لصلة الأرحام ولوأد الخصام مع الأقران، أي بوار للمشاحن إن لم يستغل رمضان لإنهاء خصوماته، ألم يقل الحق سبحانه «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ولا يلقاها إلا الذين صبروا ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم»، رمضان فرصة لذوي الحظوظ الأضعف لتشذيب أنفسهم وتهذيبها وتعليمها الصبر، وجائزة الصبر مقدمة على جائزة ذي الحظ العظيم، ولا أفضل من رمضان في تعليم الصبر، الصبر على الشهوات والرغبات الدنيوية والرقي بالنفس لمراتب أعلى في سلم الوجود للوصول إلى مستوى النفس السوية، هي رحلة جهاد كبرى تزكية النفس أولى خطواتها واطمئنانها آخر محطاتها، النفس المطمئنة لن تقول يومها يا ليتني قدمت لحياتي لأنها قدمت وبذلت وأعطت، النفس المطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية فتدخل في عباده وتدخل جنته.