في الحوارات الحقوقية تبرز دلالات العدالة وقيمها، متى كان الحوار قويا وصريحا، يحكي الحالة بانسياب تام مع مشهدها كما هي دون إخفاء أو تخف أو مبالغة أو حتى مجاملة بين الأطراف، وإن كانت المجاملة في المواجهات النقدية دوما ما تكون بعيدة عن حلبة الحوار بسبب سخونة الطرح وتجاذب الآراء، وتبرز كذلك دلالات العدالة في الحوار متى كان المحاورون على مستوى الحوار في المادة والقدرة على امتلاك أدواته. كان حوار العدالة السعودية في عدد من الدول الغربية متميزا إلى حد بعيد، ولافتا للكثير من الغربيين تحديدا قبل أن يكون لافتا لنا مع أن عددا من تفاصيله الرائعة تم نقلها لنا صوتاً وصورة، وقد ترجمت ردة فعل الآخر تجاه هذه الحوارات التاريخية وسائل الإعلام الغربية ذاتها، ومع هذا يمكننا القول بأن ثمة تثمينا داخلياً كبيراً لهذه الحوارات في إعلامنا الداخلي الذي حفل واحتفى بها بشكل جيد حيث أبرز محتوياتها ونقل بالكلمة المجردة مجمل مجريات نقاشاتها الساخنة التي لم تخل من حكمة الطرف والمعرفة التامة بالآخر والقدرة على التصدي لهذه المنازلات التي تتداخلها معارف عميقة في الشريعة والقانون والحقوق والقضاء وأحياناً في الاجتماع والفلسفة في موادها ذات العلاقة والصلة، لتخرج من بينها كلمات وقواعد رائعة تترجم محتوى كنزنا الدستوري العظيم الذي نقله للآخر بأسلوب أشد في الروعة والجمال وفد العدالة السعودي ليعكس معالم مهمة في هوية عدالة المملكة وعالميتها وقوة ومتانة أساسها وليعكس من جانب آخر في حمأة الحوار ورسوخ الاعتزاز بهذه الهوية. لقد استطاعت العدالة السعودية أن تجيد في هذه الحوارات ويبدو أن المحك الأهم والمنعطف الأخطر يكمن في القدرة الواضحة على فهم الآخر الغربي واستيعاب أدواته وأسلوب طرحه وتفكيره، وجدنا ذلك في المصطلحات والألفاظ المستخدمة في الحوار والتي لم تخرج في جميع الأحوال مطلقاً عن إطار سياقها الشرعي، لكنها البراعة والحكمة في التوظيف، فيما قد تمر على مسمع غير المختص دون أن يكتشف مغزاها الكبير، وهي عبارات وألفاظ ومصطلحات لوتم استخدام غيرها لتولد عن هذا حالة رفض تامة وتعكير لجو الحوار ولتعثر مساره المصلحي في بابه التمهيدي، ومتى كانت البداية كذلك فإن النهاية معلومة النتائج، وبالفعل فإن الأمر مثلما أفصح عنه وفد العدالة السعودي في تعليق على سياقات الحوار في استدلال محكم واستدعاء أحكم لمثل قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"، وإذا كان كذلك فقد خسرت الجولة من بدايتها، بل وقد ترتد سلباً عليك، ولو بقيت عندئذ في دارك لكان أسلم في جميع الأحوال، ولكل مقام مقال، والبعض لا يستدعي الحالة الفكرية لمن يحاوره فيسيئ لنفسه ودينه، ولوطنه أيضا. وبالتحليل الموضوعي فإن اللافت في حوار العدالة في الدوائر الغربية (وهي دوائر مهمة وحساسة ومؤثرة بقوتها ونفوذها وتأثير تقاريرها وانطباعاتها في العالم) هو القدرة والعمق في فهم المادة الشرعية والحقوقية بوجه عام واستيعابها، والقدرة على إيصالها بالأسلوب الأكثر تقبلا واحتراما لها. كما كان الإعجاب كذلك بالقوة بشجاعة علمية وقلبية (دون تحفظ أو تخوف من المفاجآت) على الاستماع لكل ما لدى الغربيين من استفسارات وأسئلة، فأن يجلس مثلا وزير العدل على منصة الحوار عدة ساعات في محاضرات ومناقشات مفتوحة وحية في دول مهمة بما تمتلكه من قوة وتأثير وما تختزنه من رصد عميق لداخلنا الحقوقي وتبني من ذلك جبلا من جليد النقاشات الحادة يبدو ثلثه فيما يطفو على السطح وغالبه في الأعماق، ثم تأتي هذه النقاشات ليس على هرم الجبل فحسب بل تتبع أعماقه بأسلوب المبادرة لا الإجابة وردة الفعل وذلك بكل ما تمتلكه العدالة السعودية من ثقة بدينها ثم بما تمتلكه من الإمكانات والمعارف والأساليب فهذا كله مشهد في الحوار قد لا يكون مسبوقا. وترجم هذا التأثير الكبير ميزان أقرب منا في قراءة المشهد وتحليل آثاره ونتائجه على الغرب، وهو تثمين الجاليات والأقليات الإسلامية لهذه الحوارات من خلال ردود أفعالها التي أكدت لوفد العدالة كما نشر مؤخرا طلبها بأن تستمر العدالة السعودية في إبراز عدالة الدين الإسلامي بأسلوبها الحضاري في النقاش والطرح، مؤكداً أننا نفتقر كثيراً للجمع بين الخلفية الشرعية والقانونية ومقاصد التشريع وفلسفة القانون، مع توفر أدوات النقاش والحوار الفاعلة والمؤثرة فديننا أحوج ما يكون لأمثالها وما يأتي من المملكة العربية السعودية باعتبارها مهد الإسلام وقبلة المسلمين والأمينة على مقدساتهم والراعي والحاضن الحقيقي والمؤثر للإسلام والمسلمين والمستهدف الأول والأخير في الشأن الإسلامي ليس كما يأتي من غيرها مطلقا، وهي تشير إلى أن علماء المسلمين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره درسوا المنطق قبل أن يدخلوا في حوارات ناجحة ومنتصرة مع المناطقة ويكسروا منطقهم الفلسفي الخاطئ في العقائد وغيرها. وبمقاربة ومقارنة تاريخية نجد أن هذه الحوارات الأخيرة جاءت بعد غياب دام أكثر من أربعين عاما من حوار العدالة الإسلامية ببصمة علماء المملكة العربية السعودية في عمق الدوائر الغربية بل وفي عمق دار الكنيسة الكاثوليكية المتمثلة في رمزية الفاتيكان حيث انطلق جمع من فقهاء الشريعة والقضاء السعودي بقيادة وزير العدل الأسبق الشيخ محمد الحركان ومعه ثلة من العلماء أعضاء هيئة كبار العلماء منهم الشيخ: محمد بن جبير وزير العدل الأسبق رئيس مجلس القضاء الأعلى عضو هيئة كبار العلماء، والشيخ راشد بن خنين رئيس تعليم المرأة الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء وعدد كبير من العلماء. من المفارقة الزمنية غير المبررة لا شرعا ولا منطقا ما كتب عنه البعض من أن أي وفد شرعي فضلا عن كبار العلماء وقادة المؤسسة الشرعية لو قام حالياً بزيارة لعمق الفاتيكان والتقى بحبرهم كما صار لكبار علمائنا في السابق لاختلفت المعادلة تماما من ناحية الممانعة والرفض الشديد، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تجشم العناء والتعب في الدعوة بما في ذلك الذهاب للكفار في أماكنهم ودعوتهم حتى استقبل وفود مبايعته صلى الله عليه وسلم وفيهم النساء، لكن بعض تأويلات المعادلات الأخيرة تختلف تماما وهي معادلات غريبة من شأنها أن تغلق ديننا عن العالم، وتضيق مساحة انتشاره، وبل وتسيء إليه، والقارئ لآي الذكر الحكيم وخاصة في سورة آل عمران يجد الحوارات الماتعة والقوية مع قامة وقدوة وأسوة أمة الإسلام نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم. ويهمنا في هذا أن وفد العدالة السعودي، وفي بعض الزيارات نستطيع القول بأنه وفد الفعاليات الشرعية والعلمية والشورية والاقتصادية والسياسية برئاسة العدالة السعودية عقد عدة لقاءات موسعة سواء في أمريكا (على فترتين متقاربتين) أوفي بريطانيا وإسبانيا عقد جلسات حوار ونقاش مطولة مع عدد من الفعاليات الحكومية والأهلية على مختلف أطيافها، تناولت العديد من الموضوعات الحساسة والمهمة ولاسيما ما يتعلق بجوانب العدالة والحقوق، ومنها ما استدعاه وزير العدل رئيس المجلس الأعلى للقضاء الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، في بعض محاضراته وحواراته المفتوحة ومكاشفاتها الساخنة مع المحاورين من كافة المشارب خاصة في مياميالأمريكية وهي المحطة الأهم والأخطر، حيث استعرض الوزير عددا من المبادئ القضائية وإيضاح مجملات التشريع الجنائي الإسلامي، والانتقادات التي يطرحها البعض حول بعض أحكامه، وقد أجاب الوزير عن كافة الاستطلاعات الحقوقية والقانونية والتي حظيت طاولة غداء عملها بالحظ الأوفر فيها، وقد أبدت العديد من الفعاليات الغربية والشرقية أيضاً تفهمهم في هذا، فمؤتمر الاتحاد الدولي للمحامين الذي حل عليه وزير العدل ضيف شرف ومحاضر رئيسي شمل أطيافاً عدة يحملون أطروحات غربية وشرقية من الصين واليابان وغيرها، وقد ثمنوا من جانب آخر تطوير وتحديث الجوانب الإجرائية في تطوير مرفق القضاء في إطار مشروع الملك عبدالله لتطوير مرفق القضاء، مشيدين بدور المملكة وثقل مركزها الدولي، مقدرين أهمية المعلومات التي قدمها وفد العدالة السعودي، التي أجابت على ما طرحوه من أسئلة واستفسارات، وأكدوا أهمية مثل هذه الزيارات ودورها الفاعل في كشف الحقائق، وشرح العديد من القضايا التي تتطلب أمثال هذه النقاشات والحوارات المفتوحة والشفافة لتقريب وجهات النظر قدر المستطاع فيما يمكن تقريبه، وإزالة الكثير من الأطروحات في الرؤية المقابلة، ويشاد لوفد العدالة السعودي في زياراته عدم اقتصاره على نظرية الدفاع بل أخذه بزمام المبادرة في تصحيح صورة المنهج الشرعي الذي تسير عليه المملكة العربية السعودية وظهر هذا بوضوح في قوة اعتزاز الوفد في أطروحاته بالأسس الشرعية والمبادئ القضائية الإسلامية التي تتركز عليها عدالته وقيمه الحقوقية بوجه عام وشرحه الوافي لحقائقها والرد على الشبهات حولها بقدرة فائقة في الطرح والنقاش في سياقات كما قلنا تستدعي فكر ومنهجية الآخر في التفكير وهو ملحظ في منتهى الأهمية، فالناس مستويات فضلاً عن الأمم والمنظمات، فضلاً كذلك عن المشارب المتعددة. وقد أعجب الجميع بل تشوفوا إلى تفاصيل ما دار من نقاشات حول قضايا ساخنة تتعلق بقضايا شائكة في نظر الغرب بل وفي قراءة بعض المفكرين المسلمين استطاع وفد العدالة السعودي بحسب التحليلات اللاحقة والمعلنة التصدي لها بكفاءة عالية، ومن ذلك الحديث عن مسائل القصاص والحدود في الأطراف وأسلوب تنفيذها وإشهارها، وعقوبات ما يسمى بالإيذاء الجسدي ويقصدون بذلك الجلد، وكذلك مَحْرَم المرأة وذمتها المالية وحرية حركتها وتجارتها وإشرافها على شؤونها ووصولها للقضاء، ونقص نصيبها عن الرجل بالنصف في الدية والشهادة والإرث، وشفافية الأحكام القضائية ونشرها، وإمكانية المناقشات المفتوحة مع قيادة الفعاليات الدينية في المملكة في نطاق حوار الحضارات وأتباع الأديان والثقافات، والتفسير الإسلامي من خلال الرؤية الشرعية في المملكة العربية السعودية لشرعية أماكن العبادة وعدم التعرض لها، خاصة في ظل وجودها خارج المملكة، ورؤية المملكة تجاه الآراء الدينية الأخرى، سيما في جوانب الاتجاهات الفقهية في التعامل مع مفهوم السياق الإسلامي في نص القرآن الكريم ونص السنة النبوية، كما شملت المناقشات عدداً من المحاور منها الرقابة الشرعية والنظام الاقتصادي في الإسلام والآراء الفقهية المتعددة فيه، والتفسيرات الشرعية الإسلامية في الكليات والجزئيات واجتهاد القاضي، وكذلك نطاق الحقوق والحريات والتعبير عن الرأي، والعدالة الاجتماعية في مفاهيم العدالة الإسلامية وموقف التشريع الإسلامي والأنظمة واللوائح في المملكة علاوة على موقف القضاء في المملكة من هذه المسائل، ومستوى تقبل الرأي الآخر داخل الفكر الإسلامي ذاته، وهل المؤسسة الشرعية الرسمية في المملكة تفرضُ تشريعاً مُلزماً للرَّأي العام باتباع فتواها أو أن قيادة الرأي العام في التصرفات المنسوبة للدين تحتاج نصاً تشريعياً أو حكماً قضائياً يحسم الجدليات الفقهية حولها على أساس أن الإفتاء غير ملزم بعكس التشريع أو القضاء، كما تحدثت المناقشات عن المبادئ القضائية في العديد من القضايا المستجدة واستعرضت الكثير من صورها، وكان من المفيد جداً الاستعراض الرائع من قبل وفد العدالة السعودي لضمانات التقاضي وقدرة وتأهيل والتدريب المُستمر لرجال العدالة في المملكة، ولا يُعتقد أن المؤسسات الغربية واجهت قوة وقدرة على الطرح والدفاع عن العدالة الإسلامية مثلما واجهته مع وفد العدالة السعودي الذي بدا في هذه الدوائر المتصلبة بجوها الساخن مُعتزاً بدينه واثقاً بمنهجه الشرعي الذي يسير عليها قضاؤه، قادرا على مُنازلة كُلِّ المستجدات والأطروحات في جميع مساراتها الساخنة والحادة أحياناً، لكن المحاور عندما يكون قادراً مبادراً أو محاوراً أو مجيباً على الطرح ممتلكاً للمادة والآلية فإنه بدون شك سيكون على مستوى المواجهة في هذه المحافل بمنحنياتها ومنعطفاتها الخطرة.