يلتهم خروفا في 30 دقيقة    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    إصابة طبيب في قصف إسرائيلي استهدف مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    اختبارات الدور الثاني للطلاب المكملين.. اليوم    "مركز الأرصاد" يصدر تنبيهًا من أمطار غزيرة على منطقة الباحة    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    «الغرف»: تشكيل أول لجنة من نوعها ل«الطاقة» والبتروكيماويات    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    رصد أول إصابة بجدري الماء في اليمن    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    آل غالب وآل دغمش يتلقون التعازي في فقيدهم    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    المملكة تعزز التعاون لمكافحة الفساد والجريمة واسترداد الأصول    نائب وزير التجارة تبحث تعزيز الشراكة السعودية – البريطانية    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    القِبلة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    30 عاماً تحوّل الرياض إلى مركز طبي عالمي في فصل التوائم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    المدى السعودي بلا مدى    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في ذاكرة الحوار العدلي السعودي البريطاني .. وزير العدل الدكتور محمد العيسى:
لا نحترم من لا يحترم خيارنا الدستوري
نشر في الجزيرة يوم 09 - 06 - 2012

قبل أربعين عاماً من الآن سافر وزير العدل الأسبق الشيخ محمد الحركان على رأس وفد لزيارة الفاتيكان واللقاء بالبابا بولس السادس بعضوية وزير العدل الأسبق الذي أصبح رئيساً لمجلس الشورى لاحقاً الشيخ محمد بن جبير -رحمهما الله- يرافقهما الشيخ راشد بن خنين وعدد من المشايخ والمفكرين للحوار والنقاش وفتح آفاق التواصل مع العالم الخارجي.. تلك الزيارة لا تزال عالقة في أذهان من عاصروها وشهدوها باعتبارها خطوة متقدمة على سياق الطرح المؤسساتي الديني في تلك الفترة.
كان الشيخ الحركان أول وزير للعدل في المملكة العربية السعودية بين عامي 1391 إلى 1396ه.. وكانت الزيارة التي ترأس وفدها قد مرت بعدد من البلاد الأوروبية في مسار أشبه ما يكون بحوار الثقافات أو الحضارات، ترأس خلالها الحركان الجانب السعودي من العلماء المفوضين من قبل الملك فيصل يرحمه الله في حلقات نقاش مختلفة حول قضايا متصلة بالشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان.
الحوار والغياب الطويل!
قلة هم من يقرؤون التاريخ والأندر من يركبون عربته إلى الحاضر.. ولذا فإن كثيراً من إخفاقات الدول النامية تكمن في الفعل المنبت عن تراكم الخبرة والتجربة والبناء عليها، والحوار ليس إلا عمود بناء الفكر والوعي والقناعة، حين تلقيت الدعوة بأن أكون عضواً في زيارة رسمية إلى المملكة المتحدة برئاسة وزير العدل الشيخ الدكتور محمد العيسى للتواصل والحوار مع الفعاليات العدلية والرسمية البريطانية لعرض واقع العدالة في المملكة والاطلاع على أحدث الممارسات الإجرائية المطبقة لتعزيزها، شعرت بأن مهمة وفد كهذا ستكون صعبة وأن الصعوبة تكمن في الغياب الطويل عن مسرح التواصل والحوار حول هذه القضايا الهامة، عادت بي الذاكرة إلى مقاعد الدراسة حين كنت طالباً في مدينة كامبردج أدرس اللغة الإنجليزية ثم طالباً في الماجستير في جامعة غلاسكو بأسكتلندا، كانت كرات الأسئلة تتقاذف في شباك عقولنا حول قضايا شائكة من قبل الطلاب والطالبات والمدرسين.. قضايا ساخنة حول تطبيق الحدود في الشريعة الإسلامية وإرث المرأة وقيادة المرأة للسيارة والحجاب وأمور أخرى كثيرة يجد الغرب فيها مظان للسؤال والبحث.. كان أمثلنا طريقة حينما يجيب بإجابات مبهمة ثم يتمتم لمن حوله من بني قومه أن من طرح السؤال يستعرض شبهات المستشرقين والحاقدين على الأمة والوطن.. أعترف اليوم أننا فوتنا الفرصة على أنفسنا في توضيح حقيقة ديننا أولاً وواقع ممارساتنا ثانياً لنصبح مجرد علامات استفهام جديدة في دروب الباحثين عن الحقيقة!
لست مثالياً لأنفي حقيقة أن في الغرب من يدفعه الحقد أو المصلحة إلى تشويه حقيقتنا والإمعان في تغليب اللون الداكن في صورتنا أمام بني جلدته، لكني بالمقابل لست اتكالياً ومنهزماً بالقدر الذي يجعلني أعجز عن إدراك مساحة الحوار والوعي المتاحة مع الآخر والتي فوتناها بسبب ضعف الخبرة التراكمية التي لم نملك القدرة على بنائها من خلال الوعي بمصادر القوة في ثقافتنا حين تتعرض لسهام الأسئلة وحرارة التساؤل.. كان وجودي في الوفد فرصة لإعادة تجرب الوعي بتلك الحقائق والإنصات إلى من يمتلك التأصيل العلمي لطرحها في سياقها الشرعي الصحيح.
بدأت أولى مناوراتي في الطائرة حين سألت الدكتور محمد العيسى عن أكثر الأسئلة حرجاً والتي يتوقع أن يطرحها عليه المحاورون؟.. أجابني: ليس في ديننا ما يدعو للحرج!
لم تقنعني الإجابة حينها ولم أر فيها أكثر من ثقة تتسلل إلى عزتنا لنواجه بها مجهولاً استسلمنا للتعاطي معه في سياق ردات الفعل الآنية فقط.. أؤمن بقوة الإسلام وعصمة مرجعيته لكني أتحدث عن الإقناع لمن لا يؤمن بما نؤمن به ولا يستسلم لما نستسلم له.
العدالة مستقر الضمائر ولا بد لأي تجمع إنساني من رمانة ميزانها.. حين تحدثت إلى وزير العدل الدكتور محمد العيسى عن النتائج المرجوة من هكذا زيارات.. أجابني أن العدالة لا تنحصر في منصة القضاء فهي وعي وممارسة ونمط حياة وحوار أيضاً.. وحين كنا في زيارة لإصلاحية سجن: «صاحبة الجلالة» في لندن، وهو أكبر سجن إصلاحي للأحداث في المملكة المتحدة، قال وهو يحدث فريق الرعاية الاجتماعية من الشباب والذي يتابع مسيرة إصلاح الأحداث وعلاقتهم بالمجتمع بعد تأهيلهم: إنكم تزرعون بذور عدالتكم في نفوس الشباب ليعيد المجتمع قطافها بعد التأهيل.. ولولا روح عدالتكم الراسخة داخلكم لما منحتم الآخرين جهودكم لتقويم المجتمع.. كان فرحهم بكلمات الوزير كبيراً بل إن إحداهن صرحت بأن هذه الكلمات أكبر وسام حصلت عليه.. هذا الموقف أعادني إلى عبارة أن العدالة لا تنحصر في منصة القضاء.
كان برنامج اللقاءات والحوارات مع البريطانيين معداً بدقة واحترافية ليشمل أهم مفاصل العدالة في بريطانيا وأبرز شخصياتها خلال فترة مكثفة لا تتجاوز أياماً.. كان سفير خادم الحرمين الشريفين في المملكة المتحدة وأيرلندا صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نواف بن عبدالعزيز حاضراً قبل بداية البرنامج في الإعداد وفاعلاً في حضور كافة اللقاءات والفعاليات بما جعل منها فرصة مواتية للوعي والفهم المشترك.
قناعة الحوار وتمحيص الاستفهام
كان وزير العدل الدكتور محمد العيسى يؤكد لأعضاء الوفد بحضور سمو السفير الأمير محمد بن نواف قبل أن تبدأ اللقاءات أن الشريعة الإسلامية شريعة الفطرة ومنهج النداء الإنساني لها وأن الجوانب الموضوعية في قضاء المملكة العربية السعودية تستند إلى تحكيم النص الإسلامي الذي تتوافق معه العديد من النظريات والسوابق القضائية في بريطانيا وتفاجأت من حجم الأمثلة التي ساقها الوزير للتدليل على هذه المعلومة.
كان الوزير العيسى يتحدث إلينا في لحظات الاستراحة في الفندق وبعد انتهاء الجلسات حواراً مطولاً وحديثاً تتناثر فيه الأسئلة.. كان الوفد في تلك الجلسات يمارس عصفاً ذهنياً لا يتوقف حول قضايا العدالة والحقوق.. تحوي الكثير من الحكمة وكان أبرز التقاطاتها حين قال الوزير العيسى: إن الحوار قناعة بالمبدأ وتمحيصاً لما يرد حوله من استفهامات.. ويكفي أن يتفهم الآخر وإن لم يقتنع فهو مكسب تمهيدي لما بعده.. كانت أبرز ملاحظاتي ودروسي في هذا الوفد أن المحاور لا يجب عليه أن يتخندق في فكرته فيعزل الناس عنها.. ابتسامة الوزير العيسى لم تكن تفارقه في اللقاءات مع المحاورين حتى حين تكون الموضوعات الساخنة الأكثر صهيلاً على الطاولة! كان يقول بأن الحوار ليس مجرد نقل للمعلومة وعرضها واستقبال ردات الفعل حيالها.. بل الوعي بواقعها ومدلولاتها والبحث عن الحقيقة مع اليقين الداخلي بصواب ما يحمله المرء من اعتقاد ويقين وعرضها في سياق الإقناع المستند إلى منطق العقل (المسدد بمرجعية وتتويج ومصادقة الشرع بالنسبة لنا) وليس مرجعية قناعة الإنسان.. كان مصراً على أن الانفتاح والحوار مع الآخرين كفيل بإيضاح الصورة الحقيقة التي تستند إلى العزة بالهوية واليقين بالدين وبصحة ما جاء به الوحي.. قال لنا ذات جلسة: ليس الدفاع عن ديننا الإسلامي والحوار مع المخالفين لنا ضعفاً منا وقناعة بضعف ما نحمله بل ثقة بأننا نملك حلولاً للعالم ودوراً للمساهمة بمعالجة مشكلاته وقضاياه الشائكة.. لا نهدف في حواراتنا أن نرضي الآخرين ونطلب قناعتهم بما نحمل ونؤمن.. نحاورهم لكي نعرض عليهم صدق وسماحة وعدالة ما نحمله من دين تعايش عبر حوالي ألف وخمسمائة عام مع الجميع بروح النقاش والحوار الهادئ والفاعل مع مخالفيه مستذكراً قوله تعالى {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
القضاء ويقين المليك
سمعت الوزير العيسى في أكثر من لقاء مع البريطانيين بحضور سمو سفير خادم الحرمين الشريفين في بريطانيا وأيرلندا الأمير محمد بن نواف يتحدث عن قضاء المملكة كحام للحقوق والحريات وحارس للمشروعية.. تحدث عن يقين خادم الحرمين الشريفين الراسخ بتحقيق النقلة النوعية في إجراءات التقاضي وحجم النقلة النوعية التي ستكتمل بتنفيذ مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء.. قال في حواراته: إن يقين خادم الحرمين الشريفين بهذا المشروع ومتابعته المستمرة له أكبر ضمانة لنجاحه بعد الله عز وجل.. وفي لقائه مع اللورد فيلبس رئيس المحكمة العليا المحكمة البريطانية.
كان يصر الوزير العيسى أن ثوابت ومرجعية القضاء السعودي واضحة وميسرة الفهم للجميع فهي تنطلق من أسسه المتعلقة بمرجعيته العظيمة (القرآن الكريم والسنة النبوية).. كان موضوع استقلالية القضاء الأبرز في الحوار وهو ما أخذ فيه الوزير زمام المبادرة ليوضح للورد فيلبس وكبار القضاة أن مبادئ وضمانات استقلال القضاء في المملكة وعدم التدخل في أحكامه أو التأثير عليه راسخة منذ زمن المليك المؤسس وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين فلا أحد يملك التدخل أو التأثير على عمل القاضي ومجريات العدالة مهما علا شأنه مستدلاً بقضايا عديدة كان الخصم فيها مؤسسات ووزارات سيادية وشخصيات مرموقة حكم القاضي فيها للطرف الآخر.
الحوار وقيم السلفية
كنت ألحظ تسامحاً كبيراً في تعاطي الوزير العيسى مع أسئلة واستفهامات بعض المحاورين من الجانب البريطاني.. كان الوزير العيسى يستطرد في بعض الإجابات ليوضح صورة السلفية الحقة ليس كما يقرؤون عنها ويسمعون بل من خلال طرح موضوعي منطقي يستشعر فيه الاعتزاز بالهوية الإسلامية والقيم السلفية الوسطية -كما أكد عليها-.. كان يسألهم استنكاراً أن جميع أعضاء الوفد قد درسوا في مدارس وجامعات المملكة العربية السعودية وتربوا على قيم السلفية الوسطية فلماذا لم يتحولوا إلى إرهابيين وقتلة؟ كان يعيد السؤال بطريقة أخرى بعد كل إجابة.. لماذا تطرف أولئك الندرة المعزولين، واعتدلنا نحن الأغلبية الساحقة؟ ثم يؤكد لهم في سياق الجواب أن مناهج المملكة العربية السعودية التعليمية ربت أبناءها على منهج السلفية الذي حكم به قضاة المملكة على المدانين بالإرهاب بما يستحقونه شرعاً دون رحمة وتهاون وبين أن هذه السلفية هي منهج وصفي للأسلوب الوسطي الأمثل في فهم الإسلام فنحن نعتز بهذا الوصف غير أننا جميعاً تحت شعار واسم واحد هو الإسلام.. بل كانت أقوى التعليقات حين قال لأحد المحاورين إن نجاح المملكة في القضاء على الإرهاب والذي تشهد به أطراف دولية لم يكن ليتحقق في ملحمة مكافحة الإرهاب لولا جهود شعب سعودي بكل أطيافه يؤمن بالاعتدال والوسطية في حياته ويتفاعل مع رجال الأمن بكل حماس وإيمان.
الحوار واحترام الثقافة
أحد أهم اللقاءات الودية وأكثرها سخونة بالمقابل كانت مع بعض البرلمانيين البريطانيين حين فتح الحديث حول ملف العدالة وحقوق الإنسان بحضور سمو سفير خادم الحرمين الشريفين بالمملكة المتحدة وأيرلندا الأمير محمد بن نواف.. أوضح الوزير الدكتور محمد العيسى أن هذه الملاحظات لا تطال المملكة في النطاق التطبيقي لأحكام الشريعة الإسلامية بل هي في حقيقة الأمر انتقادات تنصب على الشريعة الإسلامية وتشريعها الجنائي تحديداً، وقال الوزير: إن دستور المملكة العربية السعودية هو الشريعة الإسلامية وهو أساس ومرتكز أحكامها ومن منطلق احترامه بل واحترام الإسلام كعقيدة ونظام حياة ألا تمس التقارير الحقوقية مسلماته لأنها تعكس في حقيقتها وجهة نظرها حيال الإسلام وتشريعه وليس فقط وجهة نظرها حيال نظام دولة، وقال إن مضمون هذه الملاحظات موجهة في حقيقة الأمر لأكثر من مليار مسلم يدين بدين الإسلام ومن بينهم بريطانيون مسلمون، مشيراً إلى أن للمسلمين ثقافة يجب احترامها وتقدير قناعتها، فنحن لا نفرض ديننا وقناعاتنا وثقافتنا الإسلامية على الآخرين دون قناعة ورضا منهم، لكنها بالنسبة لغيرنا ممن هو على أراضينا يمثل نظام دولة يجب التعامل معه واحترام مواده التشريعية على هذا المفهوم.
كان الحوار عميقاً يستند إلى الإقناع واللغة المتوازنة حين أوضح الوزير العيسى في رده حول ما تطرحه بعض التقارير الحقوقية الغربية حول المملكة: أن احترام الدين الإسلامي يستلزم احترام تعاليمه، ومن ثم الأسس التي لا يختلف عليها أي من المسلمين، ومن ذلك أحكام التشريع الجنائي الإسلامي التي تضمنتها بعض التقارير الحقوقية الغربية بسوء الفهم والتجني، ففي الفروع الأخرى المتعلقة بالدين الإسلامي والتي قد يختلف معنا فيها بعض المسلمين يجب أن تحترم وجهة النظر المتعلقة بتفسير النص فإذا احترم الطرف الآخر الدولة التي تعتد الإسلام دستوراً وكياناً وسيادة فيجب أن يحترم بالمقابل خيارها الدستوري وتبعاً لذلك لا بد أن تحترم اختيارها التفسيري في الفروع التشريعية وإلا كان ذلك مصادرة للرأي والقناعة وانتقاصاً للسيادة لأن الخيار التفسيري يترجم في حقيقته خيار الدولة لنظامها وخيار عدالتها في مبادئها وسوابقها القضائية.. ومن الحديث الذي ما يزال راسخاً في ذهني ما أشار إليه الوزير العيسى: من أسبقية التشريع الإسلامي لغالب النظريات والقواعد الدستورية والقانونية فقد أوضح بأن كافة النظريات الدستورية والقانونية متى كان في سياقها الصحيح المتفق عليه فإن لكل منها أصلاً -سابقاً- في الشريعة الإسلامية مؤكداً أن الشواهد والأمثلة كثيرة وساق عدداً منها.
الحوار والوعي بالآخر
الوعي بثقافة الطرف الآخر وتطبيقاته تمنحك احترامه وتقديره لما تقدم وتطرح.. وقد استوقفني في لقاء مع عدد من القضاة في مجلس إصدار الأحكام القضائية ما طرحه الوزير عليهم من انتقاده لخروج النموذج القضائي البريطاني مؤخراً عن مفهوم السوابق القضائية في الصيغة الأنجلوسكسونية إلى الصيغة اللاتينية ومثل الوزير لذلك بحالة شاهدها الوفد في حضوره لمحاكمة أحد المتهمين حين سمح القاضي للشاهدة بإخفاء شخصيتها عن المتهم أثناء الإدلاء بالشهادة.. وخلال النقاش مع كبار قضاة المحكمة بعد انتهاء جلسة المحكمة قال الوزير العيسى لكبار القضاة البريطانيين الذين شهدوا الحوار إن هذا القرار من شأن السلطة التقديرية للقضاء بما تمثله من سابقة عامة تسري كقاعدة أو كحالة خاصة وفق كل واقعة ومثل هذه لا تتطلب تشريعاً إلا في المفهوم اللاتيني!!.. لم يملك القضاة البريطانيون إجابة مقنعة لهذه الملاحظة..، حتى قال الوزير ممازحاً ينبغي أن تكون الهوية العدلية الأنجلوسكسونية في وجدان البريطانيين أكثر أهمية من الحفاظ على الجنيه الأسترالي.. وفي لقائنا بوزير العدل البريطاني قال الوزير العيسى له ممازحاً: توقفنا بعجب لا بإعجاب من أن يكون تعيين كبار القضاة في بريطانيا من صلاحيات وزير العدل وبقرار فردي.
الغرفة التجارية العربية البريطانية شهدت لقاءً استثنائياً قدم خلالها وزير العدل تصحيحاً لكثير من المفاهيم المغلوطة وطمأن في لقاء مفتوح المستثمر البريطاني على البيئة القضائية في المملكة وأنها آمنة في أنظمتها وإجراءاتها وركز على تنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية وحتى أحكام المحاكم الأجنبية وفق المعاملة بالمثل أو اتفاقيات متبادلة وركز على شرط ألا يخالف الحكم الأجنبي النظام العام للدولة وألا يكون باطلاً إجرائياً، وهما شرطان مسلّم بهما عند الجميع.
حوار المبتعثين والمبتعثات
من أكثر محطات الحوار إثارة هي الحوار مع أبناء وبنات الوطن من المبتعثين والمبتعثات وقد حرص سمو السفير الأمير محمد بن نواف بن عبدالعزيز أن يكون ختام لقاءات الوفد حميمياً.. وقال مخاطباً الطلاب والطالبات: إخواني وأخواتي.. جرت العادة في تقديم الضيوف أن نبدأ بمقدمة تعريفية عن الضيف خصوصاً حين يكون بحجم معالي وزير العدل الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى.. لكن اليوم اسمحوا لي أن أكسر النمطية في ذلك وأن أبدأ بتقديمكم أنتم إلى معالي الوزير والضيوف الكرام.. أنتم الشباب والفتيات السعوديين والسعوديات.. حين أنظر إليكم اليوم أبصر في كل شخص منكم جزءا من حلم عبدالله بن عبدالعزيز في بناء إنسان التنافسية السعودي.. المورد البشري الوطني الذي لا ينضب والذي يراهن عليه المليك ليكون أساس ومنطلق تنافسيتنا في السباق العالمي الراهن.. أيها الإخوة والأخوات قبل عقدين من الآن كانت الثروة تبنى من خلال تراكم رأس المال لكنها اليوم تنشأ وتتراكم من خلال المعرفة، وليس لها من منجم سوى الإنسان نفسه.. وأنتم أيها الشباب والفتيات المنجم المعرفي الذي استند إليه الملك عبدالله بن عبدالعزيز في برنامجه التاريخي للابتعاث ليكسب به الوطن سباق وتحدي الزمن.. ومن خلال موقعي كسفير أرى في كل يوم بشائر السبق في أدائكم وإنجازاتكم على هذه الأرض.
كانت أسئلة الطلاب والطالبات تتزاحم أمام الوزير.. وهو يداعب الأمير السفير قائلاً: ما يزال هناك المتسع من الوقت.. كانت الأسئلة تتركز حول مستقبل القضاء وهموم العدالة والحقوق وبناء وتأهيل وصقل الكوادر الفاعلة.. قال الوزير في إحدى إجاباته مخاطباً أحد طلاب الدراسات العليا في القانون.. إن الوطن بحاجتكم ولكل منكم مكانه اللائق به في القطاعات العدلية في الإسناد والاستشارة والخبرة والإدارة وغيرها حين تعودون إلى الوطن.. أسئلة الطلاب والطالبات كانت تشي بالكثير من الوعي بالجانب الحقوقي والعدلي.. حين سأل أحد الطلاب عن إمكانية تعيين قضاة من غير حملة بكالوريوس كلية الشريعة قال الوزير العيسى في رد حاسم: لن يكون من بين قضاتنا من لا يحمل شهادة البكالوريوس من كلية الشريعة وزاد لن نسمح حتى لمن يحملون مجرد الدبلوم في الشريعة لأن يكون قضاة في محاكمنا.. لن نعيد النظر في هذا الأمر مطلقاً، ولن نقبل حتى مجرد النقاش فيه، فهذا يمثل بالنسبة لنا مسلمة دستورية يتعين على الجميع التسليم بها نصت عليها بعموم أهم الوثائق الدستورية وهو النظام الأساسي للحكم فضاً عن النص عليها بخصوص في نظام القضاء، وأكد الوزير على الطلاب أهمية التزامهم بتعاليم دينهم، وأن يترجموا للغرب بسلوكهم قيمه الرفيعة ومعانيه السامية ويعكسوا مفاهيمه الوسطية، وأن يكونوا سفراء خير لدينهم ثم وطنهم، وألا يخالفوا أنظمة الإقامة وكافة الأنظمة الأخرى التي تسري عليهم، وأن يستشعروا أهمية الرسالة والهدف الذي جاؤوا من أجله، وأن يكونوا على مستوى الآمال والطموحات المعقودة عليهم بإذن الله!
أخيراً.. فإن كل ما سبق ليس سوى التقاطات وملاحظات واقتباسات من حوارات ونقاشات مطولة ولقاءات متعاقبة جرت في بريطانيا رأيت نشرها وعرضها على القراء لما تحمله من قيمة وتعزيز لحضور الوطن وقضاياه بشكل احترافي نحتاجه خلال هذه المرحلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.