العلاقة الحميمة، في أبعادها الشخصية والوجدانية والإبداعية والفكرية التي ربطت الدميني بالعلي والتي نسجت خيوطها على مدى عقود من الزمن نلمسها في ثنايا كتاب «أمام مرآة محمد العلي». الدميني هنا لا يكتفي باستعراض شخصية العلي وتسليط الضوء على جوانبها وأبعادها الثقافية والإبداعية والفكرية فقط، بل إنه يقوم بعملية تفكيك النص (مقال قصير، فكر، نقد، شعر) وتجلية المفاهيم وإعادة تركيبها من جديد، من خلال الحوار الداخلي معه ضمن بنيته ودلالاته (منولوج)، وبالحوار معه في تجلياته الظاهرة والمستترة (ديالوج) والتي تصل أحيانا إلى تظهير موقفه المتمايز مع بعض الأطروحات الثقافية والفكرية للعلي. الدميني سلط الضوء على ما اعتبره ريادة العلي لمشروع ثقافي تنويري، عناصره تتمثل في عدة معرفية ولغوية غنية، وعين نقدية قارئة بعمق للتراث العربي، والثقافة المعاصرة في الآن معا، وتتكئ على رؤية جدلية لفهم وتحليل الواقع بتناقضاته وتعقيداته البنيوية من جهة، وتجلياته وتمظهراته في أبعاده وأنساقه المختلفة من جهة أخرى. ومن هنا فإن العلي وفقا للدميني إنسان وكاتب ومبدع، عصي على التأطير، ومثقف مسكون بالسؤال وبالقدرة على موضعة نفسه خارج «الأقواس». وهنا أقف متسائلا هل «الأقواس» المقصود منها هنا (وهذا ما أعتقده) تعني التخندق العصبوي الجامد، والانحصار الفئوي الضيق، الذي يحيل المثقف إلى أسير وسجين في صندوقه الفكري، المغلق والمنغلق على ذاته؟ بالتأكيد فإن العلي رغم ثقافته وعدته التراثية واللغوية العميقة، مترع إلى حد الثمالة بفكر الحداثة والتنوير وقيم العقلانية، ومفاهيم العدالة والحرية والتقدم الاجتماعي، لكنه في كل ذلك يقوم بغربلتها وإعادة إنتاجها ضمن فهم وتحليل الواقع الموضوعي المعقد، واستيعابه لثقل تركة الماضي، وضغط وممانعة الأنساق الثقافية والاجتماعية التقليدية ومنظومة قيمها. من هنا لا نستغرب دعوة العلي إلى عدم الركون إلى بعض الأطروحات «الحداثية»، التي يراها عدمية، وغير منتجة، لأنها قافزة على الواقع «الزمكان» الموضوعي، ومستوى تطور المجتمعات العربية، ومن بينها الموقف من التراث على سبيل المثال، حيث أبدى معارضته لأدونيس وغيره، ونراه قريبا برؤيته، مع منهج حسين مروة والطيب تيزيني في مقاربتهما للتراث والتاريخ، عبر التمييز بين ما هو حي ومضيء في التراث وتوظيفه في الحاضر، من خلال تعميق المنهج المادي/ العقلي/ الجدلي، وبين ما هو ميت ومعتم فيه، حيث يجري ادامته وتوظيفه من قبل بعض القوى المحافظة والمتشددة، من خلال إحياء الميت لإماتة الحي فينا. وفقا للدميني فإن العلي لم يتعاطف مع أطروحة ما بعد الحداثة معتبرا إياها قفزا على واقع المجتمعات العربية التي لم تلج بعد مسارات الحداثة (وليس التحديث المظهري) الفعلية، في أبعادها الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. على صعيد الموقف من قصيدة النثر، لم يلمس تعاطف العلي (رغم كتابته بضع قصائد) معها، رغم إقراره بخصوبتها الفنية والجمالية. الأمر ذاته يتعلق في التمييز والتفريق في رؤيته للحداثة ما بين «الرؤية» التي يتبناها والتي تعني بالنسبة له الموقف، أو المشاهدة بالبصر معتبرا الرؤية: هي ذلك المنظور الذي يمنحه البناء الثقافي لفترة في مجتمع ما، لأبنائه في النظر إلى الإنسان والحياة، أما الرؤيا فهي تلك القدرة (ولكنها تنطبق بشكل خاص) في الحقل الشعري أو الفني بصورة عامة وهو يرى أن الرؤية هي البعد الأشمل في «الفاعلية»، حيث إننا حين ننتقل من الرؤية إلى الرؤيا، أي إلى حالة الإدراك الجمالي للواقع، سنرى أن الرؤيا القاتمة أو المغلقة أو الملتبسة قد ألبست الرؤيا ألوانها فأصبحت رؤيا قاتمة مهشمة لا يضيئها غير الرنو للمستقبل. العلي يعتبر بحق أحد رواد الحداثة المبرزين في بلادنا ، وتجلى ذلك في نصوصه الشعرية منذ عام 1965، وفي كتاباته الفكرية والنقدية، وتجليته للمفاهيم وتلك المتعلقة باللغة وقراءة التراث، والحداثة بمنظور العلي مرتبطة بالرؤية، وبالخصوصية، حيث يقول: الذي لا يملك رؤية لا يملك حداثة، ونحن إذا جردنا الإنسان من الحداثة، جردناه من الرؤية ومن الخصوصية.. إذن هؤلاء (يقصد متبني الحداثة) كل منهم يملك خصوصيته وحداثته أيضا. الحداثة بمنظور العلي ليس لها تعريف محدد، ولكنها سياق .. معنى هذا السياق أو جوهره: التجاوب مع إيقاع الحياة والتجدد مع إيقاع التجاوز إلى الأفضل .. وهذا السياق الذي هو سياق الحداثة تندرج فيه آلاف الخصوصيات التي يحملها كل فرد من شعرائنا وأدبائنا. بطبيعة الحال فإن الحداثة كمفهوم وممارسة هي سيرورة دائمة لا تعرف التوقف أو المراوحة، وهي تشكل حزمة واحدة تشمل بالضرورة البني الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والإبداعية (الشعر، الموسيقى، المسرح، النقد، السينما)، كما لا يمكن إغفال دور الثورة العلمية والمعرفية والمعلوماتية والاتصالية. وبكلمة الحداثة: هي رؤية جديدة ومتجددة للواقع والمجتمع والكون وهي في الوقت نفسه ممارسة رسخت وتجذرت بعمق في مختلف مجالات وأبعاد الواقع والحياة في حركيتها المتغيرة على الدوام. ما تطرقت إليه هو نزر يسير مما جاء في الكتاب من رصد وتحليل عميق لجوانب عديدة في مشروع العلي الثقافي، ونتاجه الإبداعي، وعطائه الفكري والثقافي.