سيرة ومسيرة حياة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز «رحمه الله» سيرة ثرية ومسيرة مكللة بالفخر، تتميز بمحطات ناصعة البياض وبهاء المواقف وشموخ الحكمة وصناعة التاريخ للوطن المضيء. «الأمل يحدونا أن تقوم الأسرة بدورها في الحفاظ على هوية أبنائها .. كما نتطلع إلى أن يساند الجميع دور الأسرة في تنشئة الأجيال تنشئة اجتماعية سليمة وقوية أساسها عقيدة صحيحة وتربية صالحة وأخلاق كريمة». نايف * على الرغم من أن للمؤسسة الأمنية -أي مؤسسة أمنية وفي أي بلد كانت- منطقها الحاد، وسماتها الصارمة، وصبغتها التي من البداهة أن تكون صبغة قاسية، وذات ملامح عابسة، وبالتالي من المفترض أن تنعكس مفردات الحدة والصرامة والقسوة تلك على المشتغلين تحت سقفها والعاملين في فضائها، كما قد يتصور البعض بدءا من بسطاء الناس ووصولا إلى النخب المثقفة التي تحمل صورة نمطية عن المؤسسة الأمنية -عادة- وعن المشتغلين في ظلالها، تلك الظلال التي من المفترض أن تكون مسكونة بالصمت والغموض والخوف والأسرار.. إلى الحد الذي يرى كثير من المثقفين والمنظرين أن الأجهزة الأمنية في العالم -وفي العالم العربي تحديدا- لم تنل حظا وافرا من الحس الإنساني، وأن طبيعة العمل الأمني، وبنيته الفكرية، والمناخ الذي تعمل في سياقه تلك الأجهزة، والأطراف التي تتعاطى معها وهي عادة أطراف مسكونة بالرفض والعصيان وبذرة المشاكسة، كل ذلك يجعلها تنحاز للقسوة دائما، وتقصي بعيدا أي حس إنساني! وهو المبدأ الذي من المفترض أن يسير على ضوئه القيمون على العمل الأمني: الصرامة والصرامة فقط.. ومن هنا جاءت الصورة النمطية التي تم تكريسها في الذاكرة عبر قنوات شتى، تلك الصورة التي لا ترى في المسؤول الأمني سوى الملامح الجادة والحادة والصارمة، ولا ترى أي قسمات إنسانية مشرقة أبدا في وجه ذلك المسؤول.. لكن الذين عملوا مع نايف بن عبدالعزيز -بوصفه مهندس الأمن الأول في المملكة العربية السعودية- سنواتٍ طويلة، والذين كانوا على مسافة قريبة جدا منه، أشاروا إلى أنه يتمتع بحس إنساني عميق حتى في أصعب الظروف وأحلك المواقف وأكثرها حرجا والتباسا وأشدها ضراوة، وأكدوا على أن الملمح الإنساني لنايف بن عبدالعزيز لم يكن ملمحا مكتسبا إنما هو من الطباع العميقة التي جبِل عليها. يقول الدكتور عبد الرحمن الجماز -مستشار وزير الداخلية وأحد أكثر الناس قربا من نايف بن عبدالعزيز-: «وجدته إنسانا بكل ما تعنيه هذه الكلمة». وعلى الرغم من أن كلمة (أمير) تخيف بعض الناس لفرط هيبتها وحمولاتها المعرفية المثقلة بالظلال والمعاني، فإن الجماز -ومنذ لقائه الأول بالأمير نايف- وجد أن تلك الصورة لم تكن في محلها، إنما وجد رجلا متواضعا جدا يتقن الإنصات لا يقاطع متحدثا ويحسن التعامل مع الآخرين ويسعى جادا إلى فهمهم بهدوء.. ويذهب الجماز في وصف نايف قائلا: «الأمير نايف يمنحك انطباعا منذ الوهلة الأولى بأنه الرجل الذي يمكنك أن تتعامل معه من دون وجل أو خوف». ويضرب مثلا واقعيا على (إنسانية نايف)، تلك الإنسانية التي تجلت في ظرف حالك تماما إبان أزمة (احتلال الحرم المكي الشريف) في غرة المحرم من عام 1400 من الهجرة، التي استغرقت سبعة عشر يوما، كانت خلالها العصابة الغوغائية -بالإضافة إلى جريمة احتلال الحرم وتعطيل العبادة فيه- تريق الدماء الزكية وتفتك بالأرواح الطاهرة، وعن طريق الخديعة والغدر استطاعت هذه العصابة الظلامية بقيادة جهيمان أن تحصد عددا من الناس، وأن تحدث ارتباكا في الأمن الاجتماعي السائد، وأن تفتتح طريق العنف والإرهاب الذي وجد من يسلكه فيما بعد تحت شعارات أخرى ورايات مختلفة وظروف مغايرة، وأن تضع بذرتهما الأولى في أحشاء الحياة الفكرية عبر ما يسمى بحركات (الإسلام السياسي) الذي كان المجتمع السعودي لا يزال بمنأى عن ريحها وظلامها وعواصفها العاتية.. يقول الدكتور الجماز: «في فندق مكة القريب من الحرم، بعد أن خفت تداعيات الفتنة قليلا، جاءوا بجهيمان لكي يتولى الأمير نايف التحقيق معه شخصيا، وفعلا رأيته بأم عيني يتولى أمر التحقيق بكل هدوء، حاولت أن أشاهد على وجهه علامة من علامات الغضب، وتوقعت أن تثور ثائرته، خصوصا أن جهيمان ارتكب جريمة شنيعة في أطهر وأقدس بقعة في العالم كما أشعل فتنة كبيرة وأزهق أرواحا وعطل كل أنواع العبادة في الحرم، لكن شيئا من ذلك لم يحدث..». ويضيف: «أتذكر أن جهيمان كان كمن يبدي اعتذارا بقوله إنه كان درسا وانتهى».. فيرد عليه الأمير نايف بهدوء عجيب قائلا: «ما حدث قد حدث، وليكتب الله الخير إن شاء الله».. وظل محتفظا بهدوئه على الرغم من أن الموقف كان عصيبا وحالكا ومن الصعب على أي إنسان أن يكون محتفظا بهدوئه ورصانته ولباقته وإنسانيته بعد كل تلك الجرائم التي تم ارتكابها في الحرم المكي الشريف. ويؤكد الدكتور الجماز الذي كان على مقربة وطيدة من حياة الأمير على أنه لم يره يغضب غضبا شديدا سوى مرتين فقط طيلة ثمانية وثلاثين عاما .. وذلك عبر موقفين محددين.. الموقف الأول -يقول الجماز- لا أريد الخوض في تفاصيله لكن ما أتذكره هو أن الأمير كان في منتهى الحلم، الحلم بكل معنى الكلمة، وعندما بلغ حلم الأمير غايته ومنتهاه وجدته ينفجر غاضبا ومعه كل الحق في ذلك، وكان غضبه هذا لأسباب لا أستطيع إماطة اللثام عنها الآن.. أما الموقف الثاني الذي جعله ينفجر غاضبا فهو تستر البعض على رجل ارتكب جريمة قتل وادعاء أنهم لا يعرفون عنه شيئا أبدا، على الرغم من أنه كان يعلم علم اليقين أنهم كانوا يخبئونه لديهم ولقد ثبت له صحة ذلك تماما وأنهم كانوا يمارسون معه الكذب والخديعة. إن الكذب عدوه اللدود، وما عهدته قد كذب كذبة واحدة في حياته، حتى في المزاح لا يكذب، إنه رجل صادق يحب الصدق بكل ما تعنيه الكلمة.. وهو كمن يقول كن صادقا معي وأنا أتصرف معك بما أراه مناسبا، المهم ألا تكذب علي أبدا.. إن ما لا يعرفه الناس -يقول الجماز موضحا- أن الأمير نايف يؤثر كلمة (نايف) على كلمة (أمير)، وهو لهذا يفضل مناداته باسمه أكثر من مناداته بكلمة (أمير).. إنه رجل يحب البساطة، وفي هذا السياق أذكر أن رجلا بسيطا من أهالي شقراء اتصل عليه قائلا: هل أنت نايف؟ فأجابه نعم أنا هو، فأمطره الرجل بالأسئلة من نوع: «إشلونك، عساك طيب»، ثم شرع يطلب منه قائمة بالطلبات بلهجته البسيطة الساذجة «أنا يا نايف أبي كذا وكذا»، وكان الأمير يرد بمنتهى الاحترام ولم يتعال عليه أبدا.. وفي نهاية المكالمة قال له: «يا نايف سلم لي على الملك»!! فرد عليه الأمير نايف جادا قائلا: «إن شاء الله»!. ويضيف الجماز: هذه المكالمة بكل تجلياتها تحمل دلالات عميقة، من أهمها تواضع الأمير نايف، وهو تواضع حقيقي، وانحيازه لقيم البساطة وللناس البسطاء، وهي تؤكد كذلك على أن نايف إنسان بمعنى الكلمة. و أنه على النقيض من تلك الصور النمطية التي دأب بعض النخب المثقفة والوسائط الإعلامية في العالم العربي على تسويقها -عادة- عن المشتغلين في الشأن الأمني والقيمين على الأجهزة الأمنية تحديدا بوصفهم جادين تماما ويتسمون بالصرامة والغلظة والحدة والقسوة والتعالي على الناس. إن نايف إنسان مختلف تماما وهو بطباعه الإنسانية التي فطر عليها استطاع أن يقلب الطاولة على تلك التصورات العامة الملتبسة عن (المسؤول الأمني)، وكل من تمكن من مقاربة حياته اليومية أدرك تلك الحقيقة عن كثب، وأبصر بأم عينيه الوجه الإنساني للأمير الذي يعتبر المهندس الأول للشأن الأمني في البلاد لأكثر من ثلاثين عاما. ويروي الدكتور الجماز واقعة تؤكد هي الأخرى على جمع الأمير نايف بين وعيه كمسؤول وحسه كإنسان، وعلى جمعه بين العقل والعاطفة، والصرامة واللين، والرصانة والمرح، والجمع بين إدراك الآني ومكاشفة ما قد يقع في المستقبل.. يقول الجماز مؤكدا حكاية شاعت: دخل سيدان مسنان على الأمير في مكتبه يطلبان منه الموافقة على زواجهما من خارج المملكة، فقال لهما: أرى أن تبحثا لكما عن زوجتين من جماعتكما ذلك أفضل لمن في مثل سنكما، ورفض طبعا إعطاءهما الموافقة، وفيما كانا يهمان بالخروج راح أحدهما يلح مبينا ما قد يحدث له جراء ذلك الرفض بعبارات عفوية تشير لفرط الحاجة.. فما كان من الأمير نايف إلا أن وقع بالموافقة على طلبهما وهو يقول ضاحكا: اغربا عن وجهي الآن!. وينهي الجماز حديثه عن (إنسانية نايف) قائلا: والله إنني لو طفقت ثمانية وثلاثين عاما أتحدث عن هذا الإنسان، فلن أوفيه جزءا من حقه أبدا. * «إنه يكن عاطفة عميقة نحو الفقراء». بهذه العبارة التي تشبه الشهادة تحدث الشيخ ثنيان الثنيان -وهو من المقربين كثيرا من نايف مذ كان عمر الأمير ثماني سنوات- مؤكدا على أن تلك الصفة من طباعه الحقة وليست محض أخلاقٍ مكتسبة على الإطلاق. وسرد قصة قديمة حين كان الأمير نايف يشغل منصب أمير منطقة الرياض، مفادها أن حريقا اندلع في أحد البيوت ذات ظهيرة، وكان بداخله شخص يتعرض للخطر، فما كان من الأمير نايف إلا أن قرر اقتحام البيت شخصيا لإنقاذ ذلك الشخص البسيط فيما كانت النيران تندلع بضراوة. ويقول الثنيان: في المواقف الحزينة كنت أبصر دموع الأمير نايف وهي تنسكب هادئة، بيد أنني لم أكن أسمع بكاءه على الإطلاق، لقد كان رجلا متماسكا على الدوام، وكان يتصرف كرجل ناضج مذ كان صغيرا.. وأذكر أنني أبصرت حزنه الصامت العميق يوم رحيل أمه الأميرة حصة، وشاهدت دموعه تسيل من دون أن يتناهى إلى سمعي صوت بكاءٍ أو شهقة نحيب، ولقد حدث الأمر نفسه إبان استشهاد الملك فيصل، يرحمه الله، ولقد كان حدثا جللا.. لكن نايف -وعلى الرغم من حزنه الذي كان حزنا طاغيا- كان يبدي تماسكا منقطع النظير وكان يركز على إدارة شؤون الدولة ويوصي بتسيير مصالح الناس وكان حريصا -على الرغم من أن الظرف كان عصيبا- على ضرورة ألا تتعطل تلك المصالح وألا يلحق ضرر بأصحابها جراء تداعيات رحيل الشهيد، ويتفق الشيخ الثنيان مع الدكتور الجماز على أن نايف لم يكن ليعبأ كثيرا بالألقاب وأنه يحب أن يناديه المحيطون به باسمه مجردا من أي لقب رسمي. ويؤكد الشيخ الثنيان على أن الأمير نايف لم يكن سريع الانفعال إطلاقا، ولم يكن سريع الغضب كذلك، إلا أنه يغضب إذا تجاوزت الأمور حدها. ويرى صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبدالمحسن -أمير منطقة حائل- «أن الإهمال وعدم احترام القرارات سببان رئيسان لإذكاء غضب الأمير نايف» بيد أنه يوضح «أن غضبه لم يؤثر يوما على قراراته أبدا»، وقال «لم أر شيئا من ذلك قد حدث طيلة عملي تحت إمرته أكثر من أربعة وعشرين عاما». ويشير سموه إلى أن «أبرز صفات الأمير نايف الإنسانية تحريه الحثيث عن حال الضعيف من الناس، فضلا عن تدخله الدائم شخصيا أو هاتفيا في المسائل التي تتعلق بإبراء الذمة»، ويضيف قائلا: «من مكاتبات ومخاطبات الأمير نايف يتضح لنا دائما أن اليتيم والمظلوم هما من أكثر الشرائح الاجتماعية أثرة عند نايف، وأنه دائما ما ينادي بأخذ حقهما ممن اعتدى عليهما في أسرع وقت ممكن مهما كان مستوى ذلك المعتدي ومهما كانت الظروف». وهب الله نايف قدرة فائقة على الجمع بين الحزم واللين، يقول الفريق أسعد عبدالكريم مدير عام الأمن الأسبق .. نايف شخصية مثالية يجمع بين الحزم واللين في مواضع مختلفة فهو رءوف في التعامل مع من يلتقيه لكنه حازم وحاسم في الأوقات التي تحتاج إلى مثل هذا التعامل، إضافة إلى أن سموه قوي الاستيعاب لما يطرح أمامه، إذ تجده ملما بتفاصيل التفاصيل بمجرد الإطلاع العابر على معاملة أو خطاب. ويضيف الفريق أسعد مؤكدا على إنسانية الأمير نايف بالتعامل مع من يعمل معه، مشيرا إلى أن سموه يعطي الموظف صلاحيات واسعة وفرص عديدة قبل مسألة المحاسبة. ويسرد عبدالله بن عبدالرحمن الشثري -وكيل جامعة الإمام- قصة ذات دلالة إنسانية عميقة قائلا: «ذات مناسبة، وفيما كنا نهم بتوديع الأمير نايف، تقدم طفل صغير من الأمير، فحاول البعض اعتراضه، لكنه قال: دعوه يقترب، وحين كان على مقربة منه سأله بهدوء: ماذا لديك؟ فأخرج الطفل ورقة صغيرة من جيبه وقدمها للأمير الذي سارع إلى المسح على رأسه برفق، ثم شرع يسأله عن اسمه وبلده، لينتهي إلى القول «ابشر بالخير، يا ولدي» فما كان من الصغير الذي لما يتجاوز الثامنة من عمره بعد إلا أن ابتسم ابتسامة بيضاء أضاءت المكان من فرط براءتها». ويمضي الشثري قائلا: «لقد أسرني تواضع الأمير نايف الذي دأب على الابتسام في وجوه الناس وتحيتهم بلطف، فضلا عن قبول ما يطرحون عليه من أفكار ورؤى.. إن هذا السلوك لا يصدر إلا عن إنسان مسلم شديد الإيمان حريص على المسلمين. ويضيف: «إن مواقف سموه كثيرة في الحقل الإنساني، خصوصا تلك الأيادي البيضاء التي يسديها للأطفال المحتاجين، كما أنه يتولى معالجة بعض المرضى على نفقته الخاصة، ويساعد الشباب الذين عادوا للصواب وتراجعوا عن قناعات الفكر الضال في مجالات عديدة كالدراسة والزواج وسواها». ويقطع عبدالرحمن الراشد -مدير عام قناة العربية ورئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط سابقا- بأن «نايف هو الأخلاق والإنسانية الكاملة». ويضيف قائلا «إن ذلك يتضح من خلال سعيه الدائم لحفظ حقوق الفرد في المجتمع، وخير دليل على ما أقول هذا الفارق الكبير في التعامل بين موظف الجوازات في المملكة مقارنة بسواه في أي بلد آخر». ويبدي الراشد إعجابه الشديد بالسلوك اليومي للأمير نايف الذي يكون من أبرز تجلياته احترام الناس وتقديرهم ومشاركتهم أحزانهم وأفراحهم.. ويقول: «لقد اتضح لي ذلك من خلال زيارته لي في منزلي لتقديم العزاء في وفاة والدي يرحمه الله». وهو يفعل نفس الشيء مع الكثيرين. .