لا تتميز اللغة العربية عن غيرها من لغات العالم في كونها لغة الضاد فحسب، ولا ينحصر تميزها في غنى مفرداتها ومرادفاتها وبنيتها الشاعرية الغنية بالدلالات بل كونها لغة المثنى في الوقت نفسه. ففي حين أن معظم اللغات الأخرى تنتقل مباشرة من المفرد إلى الجمع تجعل العربية للمثنى مقاما خاصا أو منزلة بين المنزلتين وتفرد له قواعده الإعرابية الخاصة به. وفي «لسان العرب» يحتل الجذر الثلاثي «ثني» صفحات عديدة من المعجم لكثرة اشتقاقاته ومعانيه فاثنان، وفق المعجم، اسمان لا يفردان ولا يقال لأحدهما «إثن» والمثنى نفسه يحمل صيغة المفرد رغم دلالته على اثنين. وكما أن «الثني» هو عطف الشيء على ذاته فإن بين العاشق والمعشوق في المثنى ما يشبه الحدب والتماثل والمواءمة بين الطرفين المضروبين بصاعقة الافتتان. ليس من المستغرب إذن أن يستهل امرؤ القيس الشعرية العربية بفعل الطلب «قفا» وأن يصبح نداء الاثنين صيغة مكررة في قصائد العرب اللاحقة وسواء كان الملك الضليل يخاطب رفيقين حقيقيين تشاطر معهما الطريق المهلكة إلى بلاد الروم أم أنه استمرأ صيغة التثنية لأسباب جمالية ونفسية فإن تلك الألف الواقعة عند نهاية الفعل الثلاثي تفتح المفردة على ترجيعات إيقاعية مؤثرة ونابضة بالحسرة. كأن ألف التثنية المتناغمة مع زفير الأنفاس تستطيع أكثر من صيغتي المفرد والجمع أن تحمل صدى الصرخة إلى منتهاه وتطلقه عبر الكثبان المترامية بحثا عن بارقة أمل أو خشبة خلاص. هكذا بدت الثنائيات العربية العاشقة التي تبعت صرخة امرئ القيس، مثل عروة وعفراء أو قيس وليلى أو جميل وبثينة، وكأنها تخرج من أحشاء الصيغة اللغوية نفسها لتحول الصحراء العربية إلى غابة واسعة من الثنائيات، أو إلى سفينة نوح جديدة تحمل من كل زوجين اثنين وتجعل من الشعر ممرهما الإلزامي إلى الخلود. بعد ذلك بات خطاب الاثنين أحد المفاتيح الأكثر عذوبة للشعرية العربية، وبمعزل عن الوجود الواقعي للمثنى المقصود بالنداء. سنقرأ مع جميل بن معمر «خليلي فيما عشتما هل رأيتما / قتيلا بكى من حب صاحبه قبلي؟». ونقرأ مع ابن الرومي: «يا خليلي تيمتني وحيد» ومع المتنبي: «يا صاحبي أخمر في كؤوسكما؟» وستكون صيغة المثنى حاضرة بشكل شبه دائم على وليمة اللغة المثلومة بالشجن واللهفة وطلب المؤازرة. وسواء كان الشكل هو الذي استدعى مضمونه أو العكس هو الصحيح فإن خطاب الاثنين هو أحد العلامات الفارقة والأكثر بهاء لهذه اللغة التي يجهل جمالها الكثيرون.