هناك مجموعة من الشروط التي يمكن من خلالها الحكم على الكاتب بالإبداع، وسأتخذ من الإبداع الفلسفي نموذجا يمكن تطبيقه على بقية فنون الكتابة الأخرى. وهي خمسة شروط. أولا: الجدة. وهي شرط ضروري للفيلسوف، بحيث تكون هذه الجدة متحققة على المستوى المنهجي، أو على المستوى الفكري أو المذهبي، أو على مستوى العرض والتعبير، أو في اقتراح طريقة جديدة لإعادة صياغة وترتيب المقولات القديمة بالصورة التي يؤدي فيها هذا العمل إلى إبراز الخافي أو كشف المتناقض أو إيضاح الغامض (أو تغميض الواضح!). إن الجدة، باختصار، هي القدرة على إثارة الدهشة من جديد لدى المتلقي؛ الدهشة التي اندثرت في ظل الحياة الاجتماعية القائمة على العادة والمألوفية. وقدرة المبدعين والفلاسفة على استعادة الدهشة من جديد تفسر حالة الاغتراب الاجتماعي التي يعانون منها في كل زمان ومكان. ثانيا: الموهبة. وهي مرتبطة بالجدة وزائدة عليها؛ إذ تقتضي نوعا من الإلهام و «الحدس الفلسفي» . وليس من السهل الحديث عن الموهبة، لأنها من نوع الأسرار التي توهب للنفس فلا تدري من أية جهة كانت، وهل هي هبة داخلية أم عطاء خارجي. ولكنني قادر على أن أشترط في ظهور الموهبة شروطا سلبية؛ فلا تظهر موهبة مادامت هناك عوائق تعيقها، وإزالة مثل هذه العوائق مطلب ضروري، لأن الموهبة نشاط روحي حر ودقيق جدا ومن طبيعته أن يفعل فعله ويمارس دوره. ورفع القيود عن المواهب كفيل بظهورها، وبما أن المواهب تتفاوت قوة وضعفا، فإن كل إبداع مرتبط بقوة أو ضعف هذه الموهبة أو تلك. ثالثا: القدرة اللغوية الفائقة على صياغة المقولات والعبارات والأحكام بشكل فلسفي برهاني متماسك، وربما يكون غير متماسك ظاهريا ولكنه ينطوي على معقولية باطنة وعلى منطق داخلي، وهذا هو الأهم. فالفيلسوف مهما كان إشراقيا أو عاطفيا ولا يحفل بالعقل إلا أن لفلسفته معقولية مختلفة عن معقولية ما ليس بفلسفة. إنها معقولية يقتضيها كون الخطاب الفلسفي، أيا يكن، خطابا عقلانيا؛ أي متوجها إلى عقل الإنسان وليس إلى عاطفته، حتى ولو كان الهدف الأخير هو الانتصار للعاطفة على العقل. فلو توجه إلى مخاطبة العاطفة لأصبح شعرا أو شيئا آخر ولكنه ليس فلسفة. الفلسفة خطاب يقصد عقل الإنسان قصدا برهانيا. أما صياغة الأفكار أو التعبير عنها بشكل فلسفي فأريد به التعبير بطريقة منخرطة في اللغة العامة للفلسفة؛ أي من خلال ملاحظة ومداومة النظر في كتابات الفلاسفة ومصطلحاتهم الخاصة، التي تشكل في مجموعها لغة الفلسفة العامة. هذه اللغة الفلسفية العامة أشبه ب «اللغة النظام» عند علماء اللسانيات المعاصرة. ولكنها هنا «لغة نظام» خاصة بفئة معينة من الكتاب. ولكن أسلوب كل فيلسوف وطريقة «إنجازه» للنص الفلسفي لا بد أن يكون جديدا متفردا يختلف فيه عن غيره من الفلاسفة. فالجدة في التعبير اللغوي مهمة كالجدة في المنهج والرؤية. على أنه ينبغي التنبه إلى أن هناك فلاسفة ملهمين قادرون على أن يزعزعوا كيان ( اللغة النظام ) السائد وابتناء مفاهيم جديدة ومغايرة تقطع مع التقليد الفلسفي القائم. على أن القطيعة التامة لم تحدث بعد، فمفاهيم أرسطو وأفلاطون لاتزال تشتغل في نصوص الفلاسفة المعاصرين، كما أن «الأرجانون» الإغريقي لا يزال خصبا ومولدا لإمكانات (الكلام) الفلسفي. وحتى بالنسبة للفلسفات غير الأوروبية كالفلسفة العربية على سبيل المثال فإنها كانت تعد نفسها وريثة لهذا الأرجانون.. (يتبع). للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة