يدهش المرء حين يقارن بين أسلوبنا لممارسة الأعمال في عصر المعلوماتية والعولمة وبين أسلوب القدماء كما نتصوره ونتخيله من منطلق معطيات عصرهم. ولا يقتصر الأمر على أنواع الأعمال أو عدد الساعات التي نمارس فيها العمل، ولكنه يمتد إلى عدد المهام التي نعملها في نفس الوقت، والتي لا ننفك عن الانتقال من واحدة منها إلى الأخرى طوال الوقت. إن أكثر ما نفتقده في أعمالنا في عصر المعلوماتية والعولمة هو الوصول إلى خط النهاية أو إلى نقطة التوقف، والتي أصبحنا لا ندركها أبدا بسبب ما نستخدمه من تقنيات. فحيثما نذهب يتبعنا العمل بإلحاح من خلال مانحمله من أجهزة رقمية، ونصبح كمن يروي عطشه بماء البحر فيزداد عطشا، أو كمن يملأ وعاء بلا قاع، وذلك حسب قول «بيل جيتس» مؤسس شركة ميكروسوفت: «إن أكبر عائق للتقدم هو إدمان النجاح، لأنه بمثابة وعاء بلا قاع ». فمن منا لا يرد على بريده الإلكتروني أثناء إجراء مكالمة تليفونية، أو أثناء حضور مؤتمر من المؤتمرات مبديا أنه يسجل وقائع المؤتمر. ومن منا لا يجري مكالمة أثناء قيادة السيارة، أو يتناول وجبة سريعة بينما هو يعمل على اللاب توب. ومن منا يظن أنه إن أغلق جواله ولو لفترة قصيرة فإنما سيفوته فرص عظيمة، فلا يغلقه إلا مضطرا وذلك حين يسمع : استووا ، اعتدلوا، أطفئوا الجوالات، وما أن ينتهي من صلاته إلا كان أول عمل له هو فتح هاتفه الجوال للاطلاع على ما فاته من مكالمات، ثم قد يردد بعد ذلك أذكار ختم الصلاة، وعقله مشغول بما فاته. إننا نظن أننا بهذه الممارسات إنما نزيد من إنتاجيتنا وذلك بإنجاز عدة مهام في نفس الوقت، والعكس هو الصحيح ، فلو قمنا بتخصيص الوقت لإنجاز عمل واحد محدد، بحيث لا ننصرف عنه حتى ينتهي، لوجدنا أننا ننجزه في وقت يقل بمقدار قد يصل إلى 25% من وقته لو كنا ننجزه مع غيره من الأعمال. والتفسير بسيط. فلو تصورنا أن المرء يملك خزانا من الطاقة يستهلك جزءا منها مع كل عمل يقوم به مهما صغر، فإننا سندرك أن تلك الأعمال التي نقوم بها في نفس الوقت إنما تخصم من رصيد ما نملكه من الطاقة، هذا فضلا عن الإرهاق والتشتت الذي نضع أنفسنا فيه. ويقول خبراء الطب النفسي إن عمل الشخص فوق طاقته يجعل الجسم يفرز مادة الأدرينالين التي تفرزها الأبدان عندما نكون تحت ضغوط نفسية أو جسدية، وتعطي الإنسان شعورا بالاكتئاب. ينبغي على المرء أن يبدأ يومه بالأهم من المهام، في مدد تتراوح بين 60 ، 90 دقيقة دون مقاطعة من هاتف نقال أو بريد إلكتروني، وبتوقيت محدد للبدء والانتهاء، وفي مكان يشعر فيه بالخصوصية، وحينما ينهي إحدى المهام فإنه يقضي 5 دقائق لشحذ همته وفكره للمهمة التالية. وينبغي أن يكون ذلك بناء على جدول زمني مسبق بحيث يكون للمرء رؤية استراتيجية طويلة الأمد لما يقوم به من الأعمال، كما ينبغي ألا ينسى أن يستجم بإجازة أو إجازات سنوية فعلية، ينقطع فيها عن العمل انقطاعا تاما، ولمدة أو لمدد تصل أيا منها إلى أسبوع على الأقل، فكل الأبحاث تشير إلى أن من يحصل على إجازته السنوية كاملة يكون أكثر إنتاجية وأفضل صحة ممن يستغرقه العمل حتى وإن كان يستمتع به إلى الحد الذي ينسيه أن يحصل على إجازة للاستجمام. فماذا لو كان المرء مديرا؟ إن أول ما يجب عمله هو أن يحدد وقت الاجتماعات بحيث لا يتجاوز 45 دقيقة بحيث يظل المجتمعون في درجة عالية من الانتباه والتركيز ، ويصر على أن يبدأ الاجتماع في وقته المحدد وأن ينتهي بعد المدة المحددة، ويحرص على أن يقوم كل المجتمعون بما فيهم هو نفسه بإغلاق هواتفهم وأجهزتهم الحاسوبية أثناء الاجتماع. كما يجب أن يتوقف المدير عن طلب إجابات وردود فورية من مرؤوسيه في كل لحظة تمر طوال اليوم، حيث يجعلهم ذلك دائما في وضع «رد الفعل»، مما يشتت انتباههم ويقلل من تركيزهم فيما هو موكول إليهم من أعمال. كما يجب حثهم على إغلاق بريدهم الإلكتروني أثناء العمل، وعدم فتحه إلا في أوقات محددة، إلا لو كان هناك أمر هام فإنه يتم الاتصال بهم لفتحه، وهو ما لا يجب أن يتكرر كثيرا. كما يجب على المدير أن يشجع مرؤوسيه على التوقف عن العمل في فترة واحدة للراحة على الأقل، سواء كانت فترة موحدة لجميع العاملين أو فترة مختارة يتم تحديدها بواسطة كل موظف على حدة، مع تخصيص مكان مناسب للاسترخاء والحديث. ويجب عليه أن يهنئ مرؤوسيه بإجازات الأعياد لا أن يطلب منهم العمل فيها كما يفعل بعض المديرين في بلادنا ظنا منهم أنهم بذلك يحصلون على إنتاج أكبر، وفي بعض الدول المتقدمة التي يقدس مواطنوها العمل إلى حد الإدمان مثل اليابان، يجبر العاملون على الاستراحة من العمل والاسترخاء التام في بعض المصحات لعدة أسابيع، مع الحصول على رواتبهم كاملة. إن المدير الناجح إنما يتحقق نجاحه بواسطة مرؤوسيه، فإن هو أحسن استغلال طاقاتهم ووقتهم فإن مردود ذلك يكون نجاحا له وللمؤسسة التي يديرها. وكما يقال فإن المدير الناجح يقوم بمهام تحتاج ل 20% من الوقت وتنتج 80% من الاهداف، بينما غير الناجح يقوم بمهام تحتاج ل 80% من الوقت وتنتج 20 % من الاهداف. أستاذ المعلومات جامعة الملك سعود عضو مجلس الشورى.