عندما يلجأ البعض للتعبير عن رغبة أو توصيل رسالة معينة فإنه يفكر عادة في إحدى الطرق الملائمة للإفصاح عنها، وفي الغالب فإن طرق الإفصاح تكون إما بالتلميح أو بالتصريح، وتفضيل إحداهما على الأخرى يتوقف على عوامل عديدة أهمها طبيعة الموضوع المفصح عنه، فقد يكون التلميح مفضلا في حالات بينما يكون التصريح هو الأمثل في حالات أخرى والعكس صحيح، وعندما تكون النفوس بين أطراف الحوار صافية والنقاش بناء وموضوعيا فإن اختيار طريقة التعبير لا تمثل مشكلة كبرى، إلا أن مكمن المشكلة يكون عند التعامل مع خصم متلون أو بالأحرى منافق يلجأ للمناورة تارة بالتلميح وأخرى بالتصريح حتى لا تتكشف أهدافه الخبيثة وبالتالي يفقد مصداقيتة أمام الآخرين ومن ثم يتعرض لانتقادهم، ومن هنا فإن التلميح يمكنه من التملص وقتما شاء بحجة سوء الفهم أو حتى تحت أي ذريعة أخرى. ينتهج ساسة بعض الدول سياسة التلميح لإخفاء نوازعهم العداونية، ولكن كثيرا من تلك التلميحات يمكن تصنيفها على أنها غمز ولمز يصل لحد الاستفزاز، ورد فعل الطرف الذي يتم استفزازه يختلف من دولة لأخرى بالطبع، غير أن الدول الحكيمة دوما هي من تلتزم بأقصى درجات ضبط النفس وتتمسك بالأعراف والتقاليد الدولية لآخر مدى، فلا يصدر عنها تصريح معيب ولا تعامل الدولة المستفزة بالمثل.. ولقد أشرت في مقال سابق عن تهور ساسة جارتنا في تصريحات سافرة حاشرة أنفها في شؤون داخلية لا تخصها من قريب أو بعيد، والتي كانت تهدف منها لجذب دول الخليج لدائرة من التصريحات العدائية المتبادلة، غير أن دول الخليج لم يصدر عنها أي تصريح مشابه بل عمدت لتجاهل التهديدات المقنعة وشرعت في التخطيط العملي لمواجهة كل ما يمكن أن يهدد أمن وسلامة أراضيها وشعوبها. لعلنا تابعنا جميعا من فترة وجيزة اللقاءات التشاورية للقمة التي عقدت في الرياض بهدف الانتقال بمجلس التعاون الخليجي إلى اتحاد الخليج العربي، مما أفقد البعض من الدائرة المحيطة بساسة جارتنا صبرهم وتوازنهم وبالتالي انتقلت الاستفزازات العدائية من مرحلة التلميح الخفي والتصريح المقنع إلى مرحلة التصريح المعلن والعدائية المكشوفة. من المؤكد أن تعامل قادة منطقة الخليج بهدوء وكياسة أفقد جارتنا صوابها وأخرج مخبوء صدرها أمام العالم كله، لقد ظهرت أطماعهم في منطقة الخليج واضحة جلية أمام جميع دول العالم رافضة مبدأ الاتحاد بين دول الخليج وكأنها الوصي على تصرفاتهم وسياساتهم، وبدأت بفتح ملفات قديمة للشقيقة البحرين انتهت منذ السبعينيات زاعمة أنها محافظة من محافظاتهم!. قد نلتمس العذر ونتجاوز عن الخطأ عندما تصدر مثل هذه التصريحات من شخصيات جاهلة أو حتى عندما يكون الأمر مجرد تعبير للرأي، غير أن المؤسف والمؤلم عندما تصدر مثل هذه الاستفزازات من أناس محسوبين على الدولة نفسها. أليس من الأجدر أن يعيدوا فتح الملفات التي بين أيديهم والتي لاتزال شعوبهم تعاني منها الكثير؟ فمن الذي خولهم وأعطاهم الحق في محاسبة التاريخ؟ وبأي منطق تتحدث دولة على لسان دولة أخرى وشعب آخر وتقحم نفسها في تحديد مصيره؟، وهي الدولة ذات التاريخ غير المشرف في استنزاف شعوبها ومواردها وتهور قادتها ومعاداة جيرانها وقمع معارضيها والتنكيل بخصومها. لعل النتيجة الحتمية المستخلصة من مثل هذه العدائيات والسلوكيات هي مزيد من التلاحم بين الشعوب الخليجية وبين قادتها.. إن ساسة جارتنا يراهنون على الفرقة ويعولون على شق الصف الموحد، غير أن الأيام والسنين أثبتت لهم بما لا يقبل الشك أنه مهما وصلت درجة الخلاف بين الشعوب الخليجية وبين حكوماتها فإن هناك خطا أحمر لا تقبل شعوبنا المساومة بشأنه، بل لا تقبل حتى مجرد التفكير فيه أو وضعه على مائدة التفاوض، وهذا الخط الأحمر هو سيادة دولها ووحدة أوطانها التي طالما افتخرت بها أمام دول وشعوب العالم أجمع، فالشعوب الخليجية تعتز بهوياتها وتفخر بانتمائها لمنطقة الخليج العربي، وهي لا ترضى عنها بديلا ولا تفكر في التنازل عنها لصالح أي هوية أخرى، فهي الهوية التي منحتها احتراما وتقديرا وصقلا بين شعوب الأرض قاطبة، وهي فخر وشرف لكل مواطن خليجي ومبعث اعتزاز لكل من ينتمي لذلك الدين الحنيف وتلك الحضارة الخالدة. * أكاديمي وكاتب صحفي. www.a-e-house.org