إن القلب يحزن، والعين تدمع، والفكر يحار، في وصف ما تعانيه سوريا منذ عام كامل، من الظلم والعدوان، والاعتداء على الأرواح والأموال والأعراض، وهدم الدور، وقصف الأحياء السكنية، وترويع الآمنين، من قبل جيش يفترض به أن يكون الحامي المدافع، لا الجاني المهاجم، وعلى يد حكومة واجبها أن تحمي من العدوان لا أن تعتدي، وأن تحمي لا أن يطلب الناس الحماية من بغيها!. لكن رغم أرطال الدموع، وسيول الدماء، وركام الأسى والغضب، تشرق بين أعيننا شمس الأمل الساطع، ويتلألأ نور الفجر الصادق، ويشع بدر اليقين الواثق، بنصر قريب عاجل، ومحنة وابتلاء لأهلنا في سوريا، يكون مقدمة لصلاح أمر الأمة كلها بحول الله سبحانه. إن هذه الآلام هي مقدمات الآمال، وهذه المحن فيها منح جليلة، وهذا العناء الذي تعيشه سوريا هو المخاض المؤذن بميلاد عهد جديد لأمة الإسلام، عهد من العزة والرشد، يعز فيه أهل الطاعة، ويهدى فيه أهل المعصية، وتقام فيه شعائر الله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله!. مبشرات الذي يدفعني إلى زف البشرى لأهلنا في سوريا، بالنصر القريب، هو أن هذه الشدة التي نزلت بهم قطعت رجاءهم بكل الخلق، وسدت دونهم كل أبواب الأرض، ولم يبق إلا باب السماء!. والذي يدفعني إلى الاستبشار، هو أنهم يجأرون إلى الله سبحانه في صدق وخضوع، واضطرار ليس بعده اضطرار، اضطرار من لم يجد سندا غير الله، ولم يأمل أملا في غير عونه، ولم يستمسك بحبل غير حبل رجائه سبحانه، هاتفا بأعلى صوت وأصدق لهجة: ما لنا غيرك يا الله!. ما لنا غيرك يا الله!. ما لنا غيرك يا الله!. إنه مشهد يذكرني بمشهد النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام وأصحابه في غزوة الخندق، حين ابتلي المؤمنون، وزلزلوا زلزالا شديدا. ولكن القرآن العظيم يصور لنا مشهد المؤمنين رغم البرد والجوع والحصار: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما). إنه الإيمان بالله، والثقة بموعوده ثقة تتجاوز حدود الوقائع المشهودة إلى اليقين بالغيب الذي وعد الله به، والله لا يخلف الميعاد!. فهو سبحانه من وعد: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين). وهو جل وعز قال: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض). وما أرى في أيامنا المعاصرة موقفا ينطبق عليه نور هذه الآية في الحاضر والمستقبل مثل موقفكم يا أهلنا في الشام!. فمن أحق منكم بلقب الاضطرار، وقد تخلى عنكم القريب والبعيد، وتخاذل عنكم العالم، وأتاكم الموت من كل مكان، واضطربت الأرض من تحتكم؟. ومن أصدق منكم لهجة في الدعاء، وأكثر منكم رغبا في الله، وانقطاعا إليه، وانتظارا لفرجه ونصره الذي لا يتخلف!. ومن أحق منكم بالإجابة وأنتم مظلومون، والله منتصر للمظلوم ولو بعد حين. ومن أعظم منكم أملا أن يكشف الله السوء ويجعلكم خلفاء الأرض؟!، وأنتم سكان الأرض التي بارك الله فيها للعالمين أجمعين؟!. كم هي فضائل الشام التي ذكرها الله بالخير وخصها بالبركة والفضل فقال سبحانه عن الشام في قصة أبي الأنبياء عليه السلام: (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)، وقال سبحانه في قصة بني إسرائيل: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها). وعن قرى الشام يقول الله: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة). فأرض الشام أرض البركة: بركة الرزق الوفير، وبركة النبوة، وبركة العلم، وبركة الأخلاق، وبركة التاريخ، وبركة للعالمين أجمعين، وفي تفسير: «العالمين» قيل: كل ما سوى الله!. والشام محضن بيت المقدس، وقد أخبر سبحانه عن المسجد الأقصى فقال: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله). والشام أرض المحشر والمنشر: التي يحشر إليها الناس يوم البعث، وينشرون من قبورهم فيفيئون إليها زرافات ووحدانا. والشام كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: «خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده... إن الله تكفل لي بالشام وأهله». والشام هي الأرض التي يكون فيها الإيمان حين تقع الفتن، وأهلها هم ميزان قوة الأمة وضعفها؛ ففي الحديث: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم» (رواه أحمد وقال الأرانؤوط: صحيح على شرط الشيخين). وفي صحيح الجامع: «فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق، من خير مدائن الشام». فهل عرفتم يا أهل الشام لأي شيء يعدكم الله؟ إنها أرواحكم الحرة ينضجها الألم العظيم، وإنها صدوركم يمحصها الله ليتمحض فيها الإيمان، وإنها قلوبكم يخلصها الله من التعلق بغيره، والركون من سواه، لأنكم تعدون لأمر عظيم، يا بقية هذه الأمة، ويا جندها في ساحات الرباط، ويا صفها الأول في معركة التحرير الكبرى! واجبات وقبل أن يختتم القلم جولته، لا بد من تذكير الأمة كلها: حكاما، وعلماء، وآباء وأبناء، ومثقفين وكتابا، وتجارا وأثرياء.. أن يقدموا لإخوانهم في سوريا ما يملكون من دعم وعون، وأن يذكروهم في الدعاء، ويجيشوا الأمة لتقف من ورائهم: مواساة وشدا للأزر، وتجهيزا للغزاة، ومساهمة في رفع الغاشية وكشف الكربة! وعلى الحكام أن يقفوا صفا واحدا بموقف بطولي يحفظه لهم التاريخ لأن دولة واحدة لا تستطيع وحدها مواجهة هذا المشروع الصفوي الباطني. وعلى العلماء أن يجمعوا كلمة الأمة ويوحدوا الصفوف ويتناسوا الخلافات جانبا لاسيما أمام هذا العدو الذي يعتبرهم كلهم أعداء دونما تفريق بينهم، وأذكر بموقف العالم الرباني ابن تيمية حين حرك الأمة حكاما وشعوبا في مواجهة التتار وصد خطرهم، واحتسابه على الباطنية بقوله وعمله في ذلك الوقت، فما أحوجنا لمثله من العلماء الربانيين المجددين؛ كأمثال العز بن عبدالسلام بن رحمة الله وغيره. ومن الواجبات العاجلة: إغاثة اللاجئين على حدود سوريا مع دول الجوار، فقد فروا بأرواحهم ودينهم من البطش والإبادة، وإنشاء المستشفيات الميدانية لاستقبال الجرحى والمصابين. وعلى قادة الرأي وأصحاب الفكر، أن يوجهوا وسائل الإعلام لنصرة أهلنا في الشام وتسليط الأضواء على فظائع النظام وجرائمه، وفضح ممارساته الهمجية في منابر الصحافة والإعلام. ومن الواجبات: إشراك الأمة بمختلف شرائحها في هذه المعركة، وجعل قضية سوريا قضية حاضرة في وجدان المسلمين جميعا، لا تختص بها شريحة من المجتمعات المسلمة دون غيرها، فالكل يتابع أخبارها، ويألم لمآسيها، ويفرح بانتصاراتها، والكل يبذل لها ما يستطيع من الدعاء والدعم والخدمة. ولا يفوتني أن أدعو الإخوة في داخل سوريا إلى توحيد الصف، ووحدة الكلمة، وتناسي الخلافات، فإن المعركة تتطلب تلاحما وائتلافا في وجه الخطر حتى يزول، وإن أكبر هدية يتلقاها النظام الظالم هي تفرق شمل المجاهدين واضطراب كلمتهم. وعسى الله سبحانه أن يأتي بالفتح، ويعجل بالنصر، ويمن بالفرج، إنه على ذلك قدير. * أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى، المدير التنفيذي للملتقى العالمي للعلماء والمفكرين المسلمين.