«الحرب» الثالثة، من الحروب التي ساهمت بطريقة لافتة في تشكيل صورة «الأنا»، وصورة «الآخر»، أو كلتيهما، في روايات «عبده خال»، هي ما اصطلح على تسميتها «حرب الخليج الثانية»، أو «أزمة الخليج»، تلك «الحرب» التي بدأت فصولها الدرامية المعلنة يوم 2/8/1990م، عندما قام نظام صدام حسين في العراق بغزو دولة الكويت، وانتهت آخر فصولها العلنية بانهزام قوات النظام العراقي وانسحابها من الكويت يوم 28/2/1991م. وقد اتفق المحللون؛ مؤيدين ومعارضين ومحايدين، على عمق تأثيرات هذه «الحرب» على المنطقة والعالم، حيث وصف ما حدث في الثاني من أغسطس 1990 بأنه زلزال على سطح العلاقات العربية في العصر الحديث. كما قيل إن «أزمة الخليج تبدو أعمق بكثير مما يبدو على السطح». وإن كان من الطبيعي والمفهوم أن تسهم هذه «الحرب» في رسم صورة «الأنا»، على أساس كونها قد تعرضت لجزء مهم منها، أو أن تسهم في رسم صورة الآخر/العربي/العراقي الذي شن هذه الحرب ابتداء، أو الآخر/الغربي/الأمريكي، الذي قاد تدخلا أمميا في ما بعد، إلا أن ما يلفت الانتباه في رواية «نباح»، وهي الرواية التي عالج فيها الكاتب آثار هذه الحرب بشكل كبير، حضور الآخر/العربي/اليمني بوصفه طرفا متضررا بطريقة مأساوية ومحزنة، ويمكن إعادة هذا الحضور اللافت إلى حقيقة تضرر هذا الطرف على أرض الواقع، أولا، ثم إلى فهم الكاتب للآخر/العربي/اليمني بشكل جيد، وذلك بحكم انتمائه إلى قرية من قرى جنوب المملكة، وهي منطقة معروفة بعلاقاتها الجغرافية والتاريخية والاجتماعية باليمن، وأهله. ولعل سبب كون الآخر/العربي/اليمني طرفا متضررا بشكل كبير في هذه الحرب، سواء على أرض الواقع، أو في بعض التجليات السردية المعبرة، هو ذلك الموقف السياسي الذي اتخذ من قبل الحكومة اليمنية تجاه «احتلال الكويت»، ثم «حرب التحرير»؛ وهو الموقف الذي بدت فيه الحكومة اليمنية متوازنة في البداية، إلى أن تغيرا جذريا حدث حينما صوتت اليمن ضد قرار المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية، الذي يتضمن إدانة صريحة للعداون العسكري على دولة الكويت، ورفض الآثار المترتبة عليه، ومن ثم، فقد كان هذا الموقف «مثيرا للحيرة، ومخيبا للآمال في نظر دول الخليج العربي بشكل عام». لقد تأثرت علاقات اليمن الخارجية بشكل كبير، بسبب هذا الموقف الذي لم يجد صدى إيجابيا خصوصا عند دول الخليج العربي، وبناء عليه تم اتخاذ بعض الإجراءات ذات الطابع العقابي. أما عن الآثار التي خلفتها هذه «الحرب»، «حرب الخليج الثانية»، على كافة الأطراف المعنية بها، ب«أناها» و«آخرها»، أعني ما كان متجليا منها على الصعيد السردي، فقد كانت آثارا عميقة وغائرة في وجدان الناس؛ إذ لم تكن النحن/المجتمع السعودي، المسالم بطبعه، في وارد «حرب»، أي «حرب»، ولذلك فقد بدت الفترة الزمنية، ما بين اجتياح الكويت، وقصف الأراضي السعودية بصواريخ «سكود» المطلقة من قبل الآخر/العربي/العراقي، وكأنها «مزحة» كبيرة بالنسبة إليهم، لكن هذه المزحة سرعان ما تحولت إلى واقع مرير، ذلك حين «فاحت رائحة الحرب. وأدرك الجميع أن الأمر ليس مزاحا سعوا لتضخيمه عبر الأيام الماضيات، والاستمتاع به للقضاء على سنوات الركود الطويلة، استيقظت مخيلتنا على الاحتمالات المدمرة التي ستصيبنا من النثرات المتطايرة للحرب القادمة». ثم يواصل بطل رواية «نباح» توصيف حالة الارتباك «الأنوية» العامة، والتي لم يسبق لها مثيل، وذلك على وقع صراخ «سليمان العيسى»: «الخطر يهدد كل مناطق المملكة على الجميع اتخاذ الحيطة، والحذر. وإن كانت هذه آثار الحرب/القصف على المجتمع السعودي إجمالا، قبل، وخلال، سقوط الصواريخ العراقية على الأراضي السعودية، فإن آثارها وانعكاساتها السلبية على «النحن» السعودية، تستمر في الحضور حتى ما بعدها بسنوات طويلة، وهي الحقيقة التي يرى بطل الرواية أنهم احتاجوا إلى مدة زمنية ليست بالقصيرة للوصول إليها، ذلك حين يقول: «لم أكن مدركا أن اللذة التي كنا نمارسها في انتظار اشتعال الحرب يمكن أن نكون نحن الحطب المقدم لألسنتها مهما بعدنا عن لهيبها. حين تقوم الحرب لا تنتهي بانتهاء أصوات طلقات المدافع، احتجنا إلى سنوات طويلة لنصل إلى هذه الحقيقة». وفي تأكيد لهذه الآثار السلبية ال«ما بعدية» لهذه الحرب، على المجتمع السعودي، يؤكد بطل رواية «نباح» أن ثمة شيئا تغير وتبدل في نفوس الجميع، والأبعد من التغير، تلك «الفجيعة المبطنة» التي يقول إنها حلقت في أرواحهم: «لا أحد يتذكر كارثة حرب الخليج الثانية، وإن ذكرت يتم استرجاعها كحلم بهت في الذاكرة، وغابت تفاصيله، عشر سنوات مضت سريعة مباغتة التهمتنا وأبقتنا خارج الوقت. كل شيء تبدل فينا، وحلقت في أرواحنا هزيمة مبطنة.. شيء ما طار من أفئدتنا وبقينا صباح مساء ننصب الشراك لاستعادته»؛ ويمكن رد اعتبار الحالة التي وجد السعوديون، واليمنيون، أنفسهم فيها، فيما بعد هذه الحرب، حالة هزيمة مبطنة، إلى جملة من العوامل، لعل من أهمها؛ حقيقة أن أطراف أي حرب، هم أطراف مهزومون، وهو الأمر الذي يدفع في أحيان كثيرة نحو التساؤل: هل هناك ما يستحق؟ ثم إن تلك «الهزيمة المبطنة» تستمد قوة حضورها من خلال إحساس الإنسان السعودي بالمرارة وخيبة الأمل في آخر/عربي/عراقي، وغير عراقي، هاجم واحتل وقصف، أو دعم وساند وأيد، كاليمني مثلا. وأخيرا، فإن بطل رواية «نباح» يوضح سببا من أسباب كون هذه الحالة، حالة ما بعد «حرب الخليج الثانية»، هي في حقيقتها حالة «هزيمة مبطنة»، حين يؤكد أن الحرب عموما، وهذه «الحرب» تحديدا، «حرب بسطاء»، على اعتبار كون المتضرر الأول، بشكل مباشر، أو غير مباشر، هو الإنسان البسيط، أما «صدام» و«بوش»، فهما في مواقع بعيدة عن التعرض لأي نوع من أنواع التأثيرات والانعكاسات السلبية؛ فالجند البسطاء هم الذين يقاتلون وليس هما، وأهالي الجنود البسطاء هم الذي يعانون من الفقد والحرمان حين يموت آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم وأزواجهم وليس هما، الجميع تضرر، «أنا» و«آخر» ما عدا هما، يقول بطل الرواية في هذا السياق: «حرب الخليج هذه الكارثة التي اصطلينا بها كدجاج جلب في حظيرة لتقديمه في وليمة عشاء فاخرة، وكان على المدعوين تنفيذ شرط الوليمة: الاستمتاع بالشواء، وترك لحمنا ينز، يتساقط زيته على نار مستعرة من غير أن تمسه يد! كم ضحية نضج جسدها في حفلة الشواء تلك؟ إبراهيم المؤذن، ياسين، أبوناب، عيسى شرف، وفاء، زينب، فؤاد، ليلى، محسن، أنا، زوجتي، أطفالي، العم جابر وحفيده، زوجة ابنه، وآلاف من البشر الذين لا أعرفهم. جميعنا كنا في قضيب واحد نكمل دورة الشواء على مهل، كل منا تساقط لحمه في تلك النار المتأججة، أخذ من أجسادنا ما لم يؤخذ من جسد صدام أو جسد بوش مثلا».