تابعت كما تابع الكثيرون قضية جاري ساندسكي مساعد مدرب جامعة بني ستيت لكرة القدم الأمريكي التي يفصل فيها القضاء، وكيف أن الفريق الأسطوري وطاقمه كانا تحت المحك. تلك القضية التي شغلت وسائل الإعلام، وأشغلت الرأي العام، هناك في أمريكا، إذ كيف لمن هذا مستواه أن يسقط إلى هذا المستوى الأخلاقي المشين. وإن تعجب، فعجب قرارهم الحازم بفصله، خلال ساعات من نشر وسائل الإعلام للقضية وكيف تدخل مجلس الأمناء بإجرائه الصارم بعزله وعزل مدير الفريق الأسطوري جو بترنو الذي توفى بعد الحادث بأيام معدودة، كل ذلك في مجتمع منفتح بطبعه، متحرر من تقاليده، حتى أن الحادثة غيرت استراتيجية الجامعة فقد ذكر رئيسها رودني اركسون أن الجامعة ستغير نظرة العالم لها كجامعة متميزة في كرة القدم إلى جامعة متميزة علمياً وبحثياً. فكان السؤال الذي يفرض نفسه..؟ ويزاحم في البحث عن إجابات مفقودة.. ماذا عن حال مجتمعنا المتدين بطبعه، والأصيل بموروثه، وقد أضحى التحرش باديا فيه للعيان، ومنتشرا في كثير من الأماكن والمناسبات.. في المدرسة وفي السوق، وفي مقر العمل بل وفي قلعتنا الأخيرة «البيت» التي لم تكن بمنأى هي أيضاً عن هذه الظاهرة الجائحة. فلا الدين، ولا العادات ولا الأخلاق، ولا حتى الضمير في أحيان كثيرة يوقف هذا الفعل المشين، ويمنع من تفشي ظاهرة يتلظى المجتمع بنارها. إنه لم يعد هناك وقت أن نقف متفرجين، أو نضع هذه الظاهرة في خانة المسكوت عنه، ونتوارى عندما نسمع إحصاءات الخطر وصيحات النذير فندس رؤوسنا في اللامبالاة ونظل في غفلتنا تائهين. لقد مضى زمن اللامبالاة ورحل، وآن أوان العمل والمبادرات الفاعلة قبل أن تتفاقم الظاهرة، وتتعصى على الإصلاح والعلاج.. فظاهرة التحرش اليوم تزداد عن ذي قبل، وتنتشر أكثر من أي وقت مضى، فقد أكدت دراسة علمية شملت 823 طالباً ونشرت في صحيفة الرياض: أن قرابة ربع أطفال المملكة تعرضوا للتحرش الجنسي، وأن 62 في المائة منهم رفضوا الإفصاح عن الأشخاص الذين تحرشوا بهم، كما كشفت دراسة ميدانية حديثة أجرتها شركة أبحاث عالمية لصالح وكالة الأنباء العالمية «رويترز»، أن السعودية تحتل المركز الثالث من بين 24 دولة في قضايا التحرش الجنسي في مواقع العمل! وبينت الدراسة، التي شملت 12 ألف موظفة من دول المسح، أن 16 في المائة من النساء العاملات في السعودية تعرضن للتحرش الجنسي من قبل المسؤولين في العمل. وبغض النظر أياً كان نوع التحرش، في الأطفال أو في النساء، ومهما تنوعت وتعددت طرقه وصوره، فإن ما يهمنا في هذه السطور هو الوقوف على هذه الأرقام المخيفة والشرر المستطير الذي هو نتاج دراسات ميدانية وأكاديمية ليس لنا أمامها من مهرب، ولا سبيل معها إلى التغاضي والسكوت. فهذا المجتمع مجتمعنا، وأطفاله هم أطفالنا، ونساؤه هن نساؤنا وبناتنا وأمهاتنا، ولم يهبطن إلينا من كوكب آخر.. إنها الأسرة التي تعلمنا قديماً في المدارس أنها نواة المجتمع، ومكون الوطن الأساس، وأن مشكلتها مشكلتنا جميعاً، واستهدافها استهداف للوطن لا أقل.إن العالم اليوم يعيش ثورة جنسية طاغية تجاوزت كل الحدود والسدود، واستمرار هذا التباطؤ عن طرح الحلول العاجلة، وعدم الاكتراث بمآل الظاهرة المتفاقمة ينذر بخطر محدق، وكارثة مجتمعية مزلزلة، فقد كشفت دراسة عن السلوكيات الجنسية لدى طلاب المرحلة الثانوية في جدة، أن ما نسبته 32 في المائة من طلاب الثانوية لجميع المراحل في جدة، وقعوا في ممارسة جنسية خاطئة لمرة واحدة أو أكثر خلال السنوات الثلاث التي سبقت فترة إجراء الدراسة. وقد بينت الدراسة التي شملت أكثر من 1200 طالب أن ثلث العينة سبق أن وقعت في ممارسة جنسية خاطئة. وتضمنت مواضيع الدراسة السلوكيات المتعلقة بالصحة الجنسية كالتدخين، والمسكرات، والمخدرات، والشذوذ الجنسي، وكذلك ربطها بعلاقة الرقابة والتوجيه الأسري. وفي إحصاء لوزارة التربية والتعليم تأتي القضايا الأخلاقية في المركز الثاني بعد السرقة بنسبة 19 في المائة بين الذكور، ويوضح الإحصاء نفسه أن العلاقات بين الفتيات في مدارس البنات تمثل 49 في المائة من الممارسات التي تصنف على أنها قضايا أدينت فيها الفتاة. وصريح القول أن قضايا التحرش في مجتمعنا تزداد بصورة ملفتة، فها هو يطرق أبواب المجتمع السعودي بعنف، والآثار التي يتركها تهدد بانهيار البنيان المرصوص، وتدمير القلعة الحصينة، فكم نحتاج إلى الشفافية والجرأة في معالجته، ونفض الخوف الاجتماعي الذي يقف حائلا أمام تشخيصه وعلاجه، فقد اخترق مجتمعاتنا العربية المحافظة وأصبح وجوده أمراً واقعاً يستلزم تضافر الجهود من أجل مواجهته واقتلاعه من جذوره.. للحديث تتمة. [email protected]