للجملة العربية عدة أنماط؛ فمنها الجمل البسيطة ومنها الجمل المركبة، والجمل البسيطة منها الجمل الفعلية ومنها الجمل الاسمية، ومن المعروف أن الجمل الفعلية هي الأكثر جمالا والأكثر بلاغة في اللغة العربية، والفعل في اللغة العربية قد يتم تقسيمه زمنيا وعندها ينقسم لفعل ماض ومضارع، وقد يتم تصنيفه نحويا فينقسم وقتها لفعل لازم وفعل متعدٍ، وقد يتم تحديده صرفيا فينقسم لفعل صحيح وآخر معتل، أما من منظور اكتمال أركانه الأساسية فيمكننا وقتها أن نقسمه لفعل مبني للمعلوم وآخر مبني للمجهول. قد يتساءل القارئ عن مغزى هذه المقدمة، ولكن ربما يتوصل البعض للمغزى الكامن وراء هذه المقدمة النحوية، ليدركوا أن «الفعل» في اللغة العربية هو نفسه «الفعل» في حياتنا العامة والشخصية، والقواعد النحوية هي نفسها القواعد الحياتية التي تنظم سلوكنا وتحلل أفعالنا، فلكل فعل فاعل يؤديه ويقوم به، وحياتنا هي ماض نتعلم منه وحاضر نشكله ومستقبل نصبو إليه، والفعل يكون فعلا صائبا أي صحيحا، يطور حياتنا ويدفعها للأمام، وقد تشوبه عيوب وزلات فيكون معتلا يكدر معيشتنا وينغص علينا حياتنا! بيد أني أريد أن أتحدث عن ظاهرة نحوية محددة لها صدى ومردود واسع في حياتنا جميعا، وهي ظاهرة «المبني للمجهول». الفعل المبني للمجهول هو فعل محذوف فاعله، ومفعوله هو نائبه، وبلاغيا يتم حذف الفاعل لأسباب عديدة، أشهرها الجهل بالفاعل، أو عدم الرغبة في ذكره، إما لشهرته الشديدة وعدم الحاجة للتذكير به مرة أخرى، وإما لتحقيره وعدم منحه أي قيمة تذكر، حتى لو كانت تلك القيمة مجرد كلمة، وأخيرا لعدم وجود أهمية أو قيمة لذكره داخل الجملة. لو تمعنا في حياتنا فسنجد أن صيغة «الفعل المبني للمجهول» هي أكثر الصيغ التي تستخدم في أحاديثنا اليومية الدارجة، ولو نظرنا إليها ببعض العمق فسنجد أنها سلاح ذو حدين، يمكن استخدامه إما إيجابا أو سلبا؛ فقد يستخدم من باب اللياقة عند إدانة فعل ما ويرجى تغييره، ولكن في نفس الوقت لا يريد المتحدث جرح مشاعر فاعله أو إيذاءه فيكتفي بمجرد الإشارة لقبح الفعل دون التعرض لمن قام به، وقد يستخدمه البعض بلؤم وخبث شديدين لإيقاع الفتنة بين الناس أو لتشويه صور بعضهم، فيقوم بذكر أحداث ووقائع يبغي من خلالها إحداث الوقيعة وإيغار الصدور دون أن يكون ملزما بالكشف عن مصادر معلوماته حتى لا ينال العقاب الأدبي المستحق عليه إن تم إثبات زيف ادعاءاته وأكاذيبه، على الرغم من أن العقاب القانوني يلاحقه في حال الاتهام المبهم ويلزمه بذكر المصدر وإلا تحمل تبعات اتهاماته. لعل البعض يتفنن في صوغ الأحداث التي يرويها بصيغة المبني للمجهول ليشحذ حماس المستمعين الذين يستدرجهم الغموض ويستهويهم الإبهام فينهمكون في عملية تخمين واستنتاج مطولة تزيد من إشعال الفتنة وتعكير النفوس، كما قد يستهوي البعض تضليل الآخرين باستخدام مصطلحات فضفاضة مبهمة المصدر مثل سمعت، نما إلى علمي، يقولون، وغيرها. وتستخدم وسائل الإعلام المشبوهة صيغة المبني للمجهول في إعداد تقاريرها وبث أخبارها، ومن هنا تتكون الشائعات الخبيثة وتسري داخل المجتمع، وبمرور الوقت يقويها الزمن ويعمقها حتى تكاد أن تتحول لحقيقة يستحيل تغييرها أو حتى تبديلها، وتتحول الشائعة الواهية لحقيقة مثبتة، والفاعل هنا هو مصدر مجهول الهوية يمكننا أن ننعته «بالمبني للمجهول» وأخواته!. لاشك أن هناك تناسبا طرديا بين تقدم المجتمعات وبين اختفاء ظاهرة «المبني للمجهول»، فكلما تقدم المجتمع حضاريا وارتقى وعي مواطنيه، وكلما كان المواطن مثقفا معنيا بمعرفة مصادر المعلومات ودرجة مصداقيتها، وكلما توخى الآخرون الصدق في قص الأحداث، كلما قل اعتماد الأحداث المروية بصيغة المبني للمجهول، ولعل ديننا العظيم وشريعتنا الغراء سبقت تلك المعالم الحضارية بمئات العقود عندما طبقت قاعدة «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر»، فثقافة تقديم البرهان (الكشف عن مصادر المعلومات) تذكرنا بقول الله عز وجل: «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» .. صدق الله العظيم. * أكاديمي وكاتب صحافي. www.a-e-house.org