لم ولن يمر التاريخ عابرا دون أن تستوقفه مدينة جدة ، تلك المدينة الحالمة على ضفاف البحر الأحمر، والتي كانت وما زالت محطة تستأثر باهتمام الإنسان وبوابة تفتح للنور منفذا يعبر من خلاله ليطل على سحر الأنثى وأصالة الماضي المعطر بعبق الحضارات وآمال المستقبل. حاولنا في هذه السطور الإبحار مع الباحث والشاعر عبد الوهاب أبو زنادة لنكتشف المزيد من جماليات وتفاصيل تلك المدينة، حيث سلط الضوء على جدة في التاريخ القديم مستعرضا ملامحها عبر العصور المختلفة. وقبل الغوص في تاريخ جدة وتراثها آثر أبو زناده تسليط الضوء على البلدة القديمة في جدة ، التي تتكون من أحياء أربعة قابعة داخل سورها العتيق، مبينا أن لها خمس شقيقات تتكامل معهن تاريخيا وتجاريا وأمنيا كالتالي: النزلة الشرقية ، والنزلة اليمانية إلى جنوبها ، ونزلة بني مالك إلى شرقها ... وضاحيتان هما : الرويس الاعلى (الفوقاني) والرويس الادنى (التحتاني) ويقعان الى الشمال الغربي منها. بين الأسطورة والحقيقة وأضاف أبو زناده أن الإثارة في الحديث عن جدة العتيقة لا تتولد إلا بالاستهلال عن أقدم أسطورة على وجه البسيطة تلك هي اسطورة إهباط حواء على أرضها ووجود مقبرتها وضريحها الذي تتوسطه قبة يقع تحتها حجر سرة أمنا حواء وقد تم هدمها جميعا في عام 1344ه. واستطرد أبو زناده قائلا : من الطرائف التراثية الاعتقاد الذي كان سائدا وفحواه : بأن تحت القبة المذكورة يقع حجر سرة أمنا حواء ولابد للزائر او الحاج او المسافر بالبحر من الطواف بالقبة ليعود سالما غانما. وزاد أبو زناده لاستكمال الإثارة لابد من التعريج على أقدم آثار العصور القديمة التي اكتشفت في ضواحي جدة وخاصة تلك النقوش والرسوم الصخرية التي اكتشفت في كل من وادي ام حبلين (قرية مرسال) وفي وادي بريمان وفي أبحر الجنوبية وفي وادي بويب وآخرها الصنم المسمى (سعد) الذي وقف عليه أعرابي بإبله فنفرت الإبل فقذفه بحجر وهجاه بقوله : أتينا إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فلا نحن من سعد في صدر الاسلام وسلط أبو زناده الضوء على جدة في صدر الإسلام ، مشيرا إلى أن ذكرها ورد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على لسانه مرة بالقول حيث طلب الى نوفل بن الحارث الذي أسر في غزوة بدر أن يفدي نفسه برماحه التي بجدة. والمرة الثانية بالعمل عندما أرسل في السنة التاسعة للهجرة علقمة بن مجزر المدلجي في ثلاثمائة رجل لصد الغزو الحبشي البحري على جدة. وأضاف أما في عهد الخلفاء الراشدين فقد وقع في جدة حدثان على قدر كبير من الأهمية. الاول : في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتمثل في بناء المسجد العتيق (مسجد الشافعي) حاليا والواقع في حارة المظلوم. اما الثاني : فقد وقع في عام ستة وعشرين من الهجرة عندما زار الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه جدة وأمر بإفراد تلك المدينة ميناء رئيسيا لمكة المكرمة .. ويزعمون أنه اغتسل في بحر الاربعين إثر اعتماره منها. وبحر الاربعين أو بحيرة الاربعين اكتسبت شهرة عظيمة بعد اغتسال عثمان بن عفان رضي الله عنه فيها وقد اكتسبت على مر القرون أسماء عدة أذكر منها : 1) بحر الاربعين 2) بحيرة الاربعين 3) بحر الطين، ويعود المسمى الى قيام الناس في جدة القديمة باستخراج الطين من قاعها واستعماله في بناء بيوتهم. 4) بحيرة المنقبة، ويعود المسمى الى قيام الناس باستخراج الحجر المنقبي البحري من شاطئها الشرقي واستعماله في بناء البيوت. 5) بحيرة التمساح، وهي أحدث تسمية مؤقتة دارت على ألسنة المواطنين في جدة إثر ظهور عائلة من التماسيح النيلية بها .. فغدت شواطئها مزارا للناس خاصة في عطلة نهاية الاسبوع حيث كان الفتيان يتسلون بالقاء الاسماك الصغيرة وقطع الدجاج الى افراد تلك العائلة مستمتعين بسرعة انقضاضها والتهامها لما يلقى اليها وكان ذلك خلال الفترة الواقعة من بين 1418 1421ه. وبعد أن قامت الجهات الامنية المختصة بالقضاء على افراد تلك الاسرة التمساحية عادت البحيرة الى مسماها القديم وهو بحيرة الاربعين. وقد نشرت «عكاظ» في ذات الصدد قبل بضع سنوات قصيدة أربعينية بعنوان (اغتيال بحيرة الاربعين) ربط فيها الشاعر بين ضريح حواء وبحيرة الاربعين فقال في مطلعها : بحيرة الود ان الحب ما هانا من عهد حواء كان الحب عنوانا وبين البحيرة في أزهى مفاتنها وبين حواء ذات الحسن فتانا. أبو زناده توقف بنا عند هذه المحطة من تاريخ جدة ، لافتا إلى أنه سيتناول في الأسابيع المقبلة الملمح التاريخي والاجتماعي لمدينة جدة إبان الخلافتين الأموية والعباسية والعصر الفاطمي والأيوبي وكيف واجهت تلك المدينة الحالمة حملات البرتغال وفترة حكم المماليك والعثمانيين.