عم حسن محول، آخر الشخصيات التي شاركت في تشييد مباني جدة التاريخية، والكهل الذي ارتسمت على ملامحه تجاعيد الزمن، وزامن ميلاد العروس، يروي ل «رائحة المدينة» قصة الميلاد التي بدأت أولى خطواتها بجمع المؤونة من البحر صخورا وأتربة، وكيف شيدت معالمها الموغلة في الشموخ، والصامدة في وجه التعرية وتقادم السنين «كنا نحضر المواد من البحر إلى حيث جدة القديمة حاليا ونبدأ في العمل». وفي لحظة تأمل لسقف «بيت نصيف التاريخي، يقول العم حسن «يحضر (الطيانة) التربة من البحر للمعلمين والذين يشرعون في إعمار البيوت، وتستخرج أحجار الكاشور، من الرصيف الصخري المرجاني الواقع شمال بحر الأربعين النقبة وشاطئ الرويس». ويسترسل العم حسن «كان الطين الأسود اللزج المستخرج من قاع بحيرة الأربعين بدلا عن الأسمنت فيما كانت تحضر الأخشاب من الطائف وعسير لبناء الأسقف، وبالنسبة للرواشين كانت تستخدم أشجار «القندل» أو خشب «التيل» الذي يرد مع سفن الحجاج والبضائع القادمة من جنوب شرق آسيا». ويصف عم حسن التعامل في ما بين بنائي جدة التاريخية قائلا «كان المعلم يهتم بالصبي أشدما عناية إذ أنه كان بمثابة الابن، وكان يقضي يومه من الصباح الباكر، وحتى ساعات المغرب الأولى في العمل، فيما كان جل عملهم إحضار الماء من الآبار وتقريب مواد البناء للمعلمين». وعن ما كان يتقاضاه العاملون في بناء جدة القديمة يقول عم حسن «لم تكن الأجرة تتجاوز الريالين، إذ كان الصبي يتقاضى ريالا واحدا عن كل يوم عمل، ويزيد حتى يبلغ السقف الأعلى متى ما زادت الخبرة، واستطاع الصبي أن يزيدها بحسب شطارته». ويصف العم حسن الحياة الاجتماعية في قلب العروس بأنها مختلفة تماما عما هي عليه في الوقت الراهن إذ أن متاخمة جدران المنازل لبعضها، أسهمت في بناء علاقات اجتماعية متينة، «لم يكن بيننا غريب بل كان الجميع أسرة واحدة لا تفصلها الجدران ولا تلغي أهليتها الأزقة». العلاقات الاجتماعية وفي ذات السياق، يحكي عمدة حارة اليمن والمظلوم عبد الصمد محمود أقدم عمد أحياء البلد، قصصا تكرس الاندماج الاجتماعي في حقبة تزامنت ونشأة جدة، إذ كان أبناء الحي بمثابة الجسد الواحد فقد كان التاجر بعد أن يستفتح صباحا يدفع بالزبائن لجاره في المحل المجاور رغم توفر البضاعة لديه، وكانت المرأة ترسل (الزنبيل) المربوط بالحبل من النافذة ويلتقطه المار ليحضر لها ما تريد دون أن ينتظر الشكر منها. ويأسف العمدة عبد الصمد على الروابط الاجتماعية التي اندثرت، مستخرجا ونة ألم على جمال الذكريات، محملا التقنية واتساع المدينة والتفكك الاجتماعي ضياعها «اتساع المدينة والرسائل النصية قتلت الحميمية، إذ أسهمت في هدم العلاقات الأسرية وأصبحت الحياة تدار بضغطة زر واحدة، حتى فقد الناس قيمة العناق والمصافحة». وعن دور العمدة في تلك الحقبة يقول «لم يكن دور العمد فقط لمنح أوراق تعريف، بل كان العمدة يعالج المشكلات الأسرية بين الأزواج والخصومات التجارية، إضافة إلى أن كفن الميت المعروف ب «السلب» في تلك الفترة كان ذوو المتوفى يحصلون عليه من بيوت العمد». الألعاب الشعبة ويتلقط العم عبد الصمد أطراف الحديث المنغمسة في جمال الذكريات، متحدثا عن أشهر الألعاب الشعبية التي اشتهرت بها جدة، متذكرا رقصة المزمار التي كانت وما تزال رمزا للرجولة، «المزمار لعبة قديمة، ولدت بالتزامن مع بدايات تكون الحارات وتدل على الجسارة والشجاعة، وتدل على قوة الرجل في استخدام العصا وتسمى «الشون»، وهي السلاح القتالي في تلك الفترة والذي كان يستخدم لردع المعتدين على الحارة». ويضيف «التصقت اللعبة بأبناء الحجاز وتطورت وأصبح المغني «الزومان» يقف أمام صف اللاعبين أحد كبار الحارة، ويردد بعض الأهازيج ذات معنى ومدلول يرمز إلى الخصال الحميدة والترحيب والتفاخر ويردد خلفه المشاركون تلك الأهازيج بينما ينزل للرقص شخصان ثم يتبعهما آخران بطريقة منظمة وفي يد كل واحد منهما الشون»، ومن أبرز من اشتهر بهذا اللون عائلات عدة في حارات جدة ومن بينهم «عيال الصعيدي، وعيال الأمير». شخصيات جداوية يتذكر العم عبد الصمد شخصيات ذات وزن اجتماعي رفيع كان ميلادها في قلب جدة القديمة ثم خرجت من البلد إلى آفاق رحبة «خرج من أروقة البلد الشيخ عبد الوهاب عبد الواسع، علوي درويش كيال، الدكتور هشام ناظر، أسرتا الناغي والشربتلي، فنان العرب محمد عبده وشخصيات أخرى أثرت الحراك الثقافي والاجتماعي والتجاري، وكان لها تأثيرها الكبير في المناصب التي تولتها».