حياة المجتمع القضائي الناهض لا تشرق شمسه ولا يورق غصن سعادته إلا بالتزام نظامي وسلوك أخلاقي و إجرائي وتقاليد تتراكم عبر الأيام، تشمل منظومة القضاء تنظيما وتشمل العلاقات في ميدان العمل والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والسلوكية والروحية. ولهذا درجت النظم على تدوين مدونات للسلوك القضائي ونظم للحفاظ على هيبته. إن طبيعة النفس يتنازعها ميل للالتزام بأشياء معينة كطبع فطري يقابله في الجانب الآخر نزع للإحساس بالتحرر من الأشياء المفروضة عليه . وكلا الخطين متجذر في فطرة النفس وكلاهما يؤدي دوره الفاعل في الحياة. ولنتصور صورة ذلك القضاء الذي لا يكاد ينتظم عقده بسلك الالتزام، ولا يتعزز بوسائل تحفظ هيبته أو تحميه من الطعن في نزاهته أو التعدي على استقلاليته وحياديته أو التحرر بأن يكون ساحة مباحة «للشخصنة المتصيدة» أو «التفتيش بالتوصية البسيطة»، أو أن يكون في دعة من عدم التنظيم للسلوك سواء تجاه القضاة أو منهم، بالتأكيد ستكون النتيجة متعبة المعالجة حقا نظرا لما ينشأ عنها من أضرار تعكر المسيرة. هذه المقدمات ضرورية لتفهم أعماق الفكر عن أطر ومفاهيم باتت ثقافة عالمية تتأثر بالاحتكاك الاجتماعي الملتزم والمتحرر بين المجتمعات وتفرضها المنظمات الدولية كأسلوب حياة، ولا مناص من رياح التأثر بها في مفاهيمها حالها حال تطور المجتمعات . ووفق أطر مرجعيتنا الإسلامية ومنهجيتنا القضائية الشرعية المبنية على الكتاب والسنة والحاسمة برفض أثقال القوانين الوضعية ومع عناصر الالتزام والتحرر هل يكفينا أن نتخندق بهذا الرفض. وهل يجوز لنا ونحن نرى هذا الانبهار بقوانين الآخرين والتي يريدها البعض أن تكون حاكمة على إرثنا في العدالة بأن نتشبث بالحوقلة وأن «للبيت رب يحميه» دون أن نشعل مواقد العقول للنزال الحضاري والتجديد. إن التجديد القضائي الإسلامي بحاجة اليوم إلى نهضة فكرية في قراءة ناقدة فاحصة للمفاهيم الفكرية الرومانية ونظم العدالة اللاتينية والإنجلوسكسونية التي درجت مؤخرا كمؤثر في الالتزام العدلي العالمي. القضاء الإسلامي بحاجة بالفعل إلى دعم صاحب القرار السياسي المجدد القرني، ليؤكد دائما على هويتنا القضائية دون خجل. ويدعم بكل ما أوتي من قوة وأمانة التجدد القضائي، حيث يتمثل إمكانيات التحسين كلما ساءت أحوال المسلمين لضعف تمسكهم بالكتاب والسنة، ويفرض هيبة العدل كلما قل اهتمام الناس بالعدل وقيمه وإعطاء كل ذي حق حقه. بتجدد الظروف والوسائل وإدارة الوعي الملتزم، والتحرر الواعي، والتعمق في المعالجات الجمعية فإن قضاءنا السعودي الإسلامي سيبقى بالتأكيد في حالة من الحيوية على مواجهة مشاكل العصر وتعقيداته . وعلى هذا جرى التوقيع .. ولننهض في لقاء آخر .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. * القاضي بالمحكمة العامة في تبوك