الجانب الإنساني في حياة د. غازي القصيبي رحمه الله هو أهم سمات شخصيته.. بل هو مفتاحها.. غازي القصيبي «إنسان» بكل دلالات هذه المفردة وحمولاتها، إنه رغم كل ما أحاط به من شهرة وتولى الكثير من المناصب وصعد المنابر متحدثا أو محاضرا أو حاصدا للجوائز بقي «إنسانا» لم يتبدل أو يتغير.. لم تشغله كل هذه الأضواء والمناصب والألقاب عن رسالته في الحياة بوصفه «إنسانا».. هذا الجانب لا يعرف عنه كثيرا كما عرف كونه وزيرا ومثقفا وسفيرا إلخ.. والسبب في غياب أو تغييب هذا الجانب يرجع إلى د. غازي رحمه الله نفسه فهو لا يحب أن يظهر أو يذاع أو ينشر عنه. يروي الدكتور حمد الماجد مدير المركز الإسلامي في بريطانيا فيما نشره في مقاله «شاهد على عصر القصيبي» الشرق الأوسط 13 رمضان 1431ه بقول الكاتب: «رن جرس هاتف مكتبي في المركز الإسلامي في لندن وإذا هو سفيرنا في لندن حينها الدكتور غازي القصيبي، قال لي: «للتو جئت من الكويت بعد أن كرموني هناك ومنحوني جائزة تقديرية ومبلغ ثلاثمائة ألف ريال، وأريد أن أتبرع به لصالح المكتبة التابعة للمركز». شكرته ودعوت الله أن يتقبل منه. طلب مني حطاب العنزي المدير السابق لمكتب وكالة الأنباء السعودية في بريطانيا، أن أستأذن القصيبي في نشر الخبر، فوافقت، وفي أحد لقاءاتي الخاصة بغازي نقلت له رغبة الوكالة في نشر الخبر، فحانت منه التفاتة سريعة إلي وكأنما فاجأه العرض، وقال لي : «يا حمد، يفرح الواحد منا أنه وفق لمثل هذه الصدقة، ثم تريدني أن أحرق ثوابها بوهج الإعلام؟ انس الموضوع». فنسيناه، لكنه راح عند من لا يضل ولا ينسى. غازي القصيبي هويته «الإنسان» وقد تماهى «الحس الإنساني والخيري» في كافة أعماله ومناصبه ومراكزه وفي تفاصيل حياته كلها. الملمح الإنساني في عمله الإداري: هذا الرجل الذي طالما سمعنا وقرأنا عن قراراته القوية عندما يرى خطأ أو يصدر قرارا من أجل مصلحة العمل والوطن. لكن هذا الجانب الإداري الحازم يقابله جانب إداري تؤطره الرحمة، بل ويغلب عليه الضعف أحيانا.. وبخاصة تجاه فئة من الناس كالمرض والمحتاجين أو من هم أقل منه مركزا إداريا أو ماليا. روى لي معالي الصديق الدكتور عبد الواحد الحميد نائبه في وزارة العمل مواقف مؤثرة تتخضب بالوهج الإنساني سواء مع المراجعين، أو مع الموظفين وصغارهم تحديدا، فمع المراجعين فإن هذا الرجل القوي يضعف عندما يأتيه رجل كبير في السن أو أي شخص تبدو عليه سيماء الضعف فتجده يوافق على ما يطلبه من تأشيرة أو غيرها دون أن يتأكد من حاجة هذا الشخص لما طلبه فهو يغلب جانب الصدق في طالب الخدمة وجانب الرحمة في قلبه كمسؤول. أما مع الموظفين فهو رغم مسؤولياته يتفقد أحوالهم وأحوال أسرهم ويعايد كل موظف بكرت عليه توقيعه.. بل إنه يرى أن الجانب الإنساني في حياة من يعمل لديه فوق النظام أو بالأحرى يطوع مرونة النظام لمراعاة المنحى الإنساني. يقول الدكتور عبد الواحد الحميد: إنه وضع شرطا في معايير النقل ألزم به اللجنة المسؤولة في الوزارة، فقد وجه اللجنة بأنه إذا كان للموظف ظروف خاصة من مرضية بالنسبة له أو لواحد من والديه أو أي ظرف إنساني فإنه لا يتم نقله من موقعه.. ورغم أن ذلك يخالف بعض اللوائح لكنه يرى أن الرحمة فوق النظام. رحمه الله كما رحم المحتاجين للرحمة. وفي فضائه الثقافي تجد الإنسان وتعزيز قيم المحبة، والسلام والتسامح والرحمة هي المفردات الأبرز في خطابه الثقافي سواء كان شعرا أو مقالا أو سردا، أليس هو القائل: من جرب الحب لم يقدر على حسد. الهاجس الإنساني عندما تقلد وزارة الصحة: أذكر عندما تولى رحمه الله وزارة الصحة قلت في مقال لي: «إن قائل هذا البيت: وإن سهرت مقلة في الظلام رأيت المروءة أن أسهرا هو من تنطبق عليه مواصفات من سيكون وزيرا للصحة فهذا العمل يتعامل مع المرضى ومع الناس في حالات ضعفهم ومرضهم..»، وفي وزارة الصحة تحديدا أعطى غازي كل وقته وجهده وعمل على أن يصبغ هذا العمل بالمحتوى الإنساني في كل عمل أنجزه أو قرار أصدره، لقد أخذه هذا العمل عن بيته وأسرته وأطفاله.. وقد جسد ذلك بقصيدته التي تفيض إنسانية ورقة تلك التي أهداها إلى ابنته «يارا» عندما كانت تسأله بعتاب طفولي: بأنها لا تراه فكان جوابه بهذا الأبيات الأخاذة التي تتوشح بالتضحية: أبي ! ألا تصحبنا؟ إنني أود أن تصحبنا... يا أبي! وانطلقت من فمها آهة حطت على الجرح.. ولم تذهب أهكذا تهجرنا يا أبي يا أجمل الحلوات.. يا فرحتي يا نشوتي الخضراء.. يا كوكبي أبوك في المكتب لما يزل يهفو إلى الطيب والأطيب يصنع حلما، خير أحلامه أن يسعد الأطفال في الملعب من أجل يارا ورفيقاتها أولع بالشغل... فلا تغضبي شمولية غيمته الإنسانية وقصة ترك مكتبه لهدف إنساني: كان اهتمام الدكتور غازي بالآخرين لا يتجه فقط إلى المرضى أو المعاقين فقط بل كانت بوصلته وأمطار غيمته الإنسانية تتوجه نحو كل من يحتاج إلى لمسة إنسانية سواء بالكلمة أو الزيارة أو المادة.. روى لي مدير مكتبه الذي رافقه على مدى 30 عاما هزاع العاصمي عديدا من المواقف الإنسانية للراحل رحمه الله ومنها هذا الموقف المؤثر؛ يقول هزاع عندما انتقل من وزارة الصناعة إلى وزارة الصحة أصيب أحد موظفي وزارة الصناعة بفشل كلوي وتم تنويمه في مستشفى الشميسي في الرياض وزار شقيق هذا الزميل الدكتور غازي ونقل له أن أخاه رفض «الغسل الكلوي» وأن الأطباء يقولون: إذا لم يغسل كليته فسوف يصاب «بتسمم الدم» الذي قد يقضي على حياته خلال مدة وجيزة، فما كان من الدكتور غازي إلا أن ترك مكتبه واجتماعا كان لديه وذهب مع شقيق هذا الزميل وأنا معهم إلى مستشفى الشميسي ودخل على هذا المريض في غرفته، وواساه ودعا له ثم ظل وقتا طويلا يقنعه بغسل الكلى، مشيرا إلى أن الله أمر بالعلاج وأن الأطباء أدرى وعليه أن يستجيب لطلبهم، ولم يذهب إلا بعد أن اقتنع، وفعلا بدأ من ذلك اليوم بغسل الكلى، وظل يسأل عنه ويزوره وعندما تبرع له أحد أقاربه بكلية سعد وسعى إلى زرعها بأقرب فرصة.. بل ظل يرسل مصروفا شهريا إلى أسرته بسبب مرضه وعجزه عن العمل». أرأيتم هذا الإنسان كيف يبذل من وقته وجهده وماله بل يقدمها على مسؤولياته وصدق مرة ثانية عندما قال: وإن سهرت مقلة في الظلام رأيت المروءة أن أسهرا الموقف الإنساني الذي جعل القصيبي يبكي: عادة الإنسان رجلا أو امرأة قد يبكي لأمر يخصه، أو عزيز يفتقده.. وهذه رحمة وإنسانية لكن أن يبكي الإنسان من أجل شأن عام ومن أجل آخرين أو ضعفاء أو مرضى فتلك هي قمة الإنسانية والرحمة. الدكتور غازي القصيبي واحد من الذين يبكون من أجل غيرهم رغم ما عهد عنه وفيه من قوة وحزم.. روى لي فهيد الشريف أحد زملائه وأصدقائه المقربين أنه رافق الدكتور غازي عندما كان مديرا عاما للشؤون الإدارية والمالية في وزارة الصحة.. رافقه لزيارة مستشفى الولادة والأطفال في المدينةالمنورة وعندما بدأ الجولة وجد غرف المريضات وغرف الأطفال في وضع مزر: نظافة وصيانة وخدمات وظل يستمع إلى شكاوى المريضات وبعضهن كن يبكين فما كان من الدكتور غازي رحمه الله إلا أن انسكبت الدموع على وجهه ولم يملك أن يرد عليهن.. فجلس في إحدى غرف المستشفى واتخذ على الفور: قرارات إدارية عاجلة تتعلق ببعض المسؤولين في المستشفى ثم طلب سرعة انتقال المريضات والأطفال إلى مستشفى آخر فأجابه مسؤولو الصحة في المدينة بأن هناك أرضا انتهت مخططاتها وسوف يبنى عليها مستشفى جديد فأجاب هل تريدوني أن أغادر المستشفى ولم أطمئن على حل سريع لهذا الوضع المزري وأضاف كيف سأرتاح وأنا أتخيل وضعهم ثم سأل عن أي مبنى يمكن أن ينقل إليه المرضى، فذكر له أحد الحضور أن هناك مبنى مناسبا تابعا لوزارة الحج والأوقاف والوزارة لا تستخدمه حاليا فما كان منه إلا أن طلب على الفور معالي الشيخ عبد الوهاب عبد الواسع وزير الحج والأوقاف السابق رحمه الله وبعد السلام عليه قال: إنني سأطلب منك طلبا وأرجو ألا تردني فهو يهمني كثيرا ثم طلب منه المبنى التابع لوزارة الحج ليكون مستشفى مؤقتا للنساء والأطفال في المدينة حتى ينتهي المبنى الجديد ووافق الشيخ عبد الوهاب وعندها أحسسنا بارتياح كبير بدا على وجه الدكتور غازي وكأن جبلا من هم انزاح عن قلبه وظل رحمه الله يتابع انتقال المريضات والأطفال يوميا من مكتبه في الرياض ولم تمض أيام حتى تم نقلهم جميعا. ورحمك الله عندما قلت: وإن سهرت مقلة في الظلام رأيت المروءة أن أسهرا رحم الله الدكتور غازي القصيبي. * صديق الراحل القصيبي عضو مجلس الشورى [email protected]