يقول أحد الناشطين الحقوقيين السوريين أن كل الدول تملك أجهزة أمنية، بينما في سورية هناك جهاز أمن يملك دولة.. هذه العبارة توجز جوهر المشكلة الأساسية لنظام الحكم السوري، وتفسر كل المآزق والورطات التي زج نفسه فيها على مدى أربعة عقود، وانتهت بالمأزق الخطير الذي يواجهه الآن، والذي قد يجر سورية إلى نفق مظلم يصعب الخروج منه. العقلية الأمنية المتجبرة حين تمتزج بأدبيات حزبية متغطرسة تنتج خلطة غريبة التكوين والملامح والتفكير، وذلك ما ينطبق على نظام الحكم، أو الدولة مجازا في سورية.. الدولة بمفهومها وتعريفها لابد لها من فكر سياسي يمكنها من التعايش مع العالم، عالمها الداخلي الذي يمثله شعبها والعالم الخارجي بدوله ومنظماته وهيئاته التي تضبط علاقاتها أنظمة وأعراف دبلوماسية وقوانين ومواثيق واتفاقيات ومعاهدات تقتضي احترامها من أجل تحقيق مصالحها الوطنية، ولكي يكون لها موقع وحضور بين الآخرين يحظى بالاحترام.. أما حين يكون جهاز الأمن هو أساس الدولة وفكرتها وفلسفتها وبنيتها، فإنها دولة تعيش في عالمها الخاص الذي لا يجعلها قادرة على الانسجام مع العالم، ولا يجعل العالم قادرا على استيعابها، وهذا ما ينطبق على النظام السوري الذي يصعب إطلاق صفة الدولة عليه لأنه ألغى أهم عناصر ومكونات الدولة، أي الشعب ، ولأنه كنظام أمني يفتقر إلى الفكر السياسي الذي لابد أن يكون أهم محركات إدارة الدولة. هذه الحقيقة تفسر نهج النظام السوري في التعامل مع كل قضاياه الداخلية والقضايا الإقليمية والدولية، كما أنها تفسر أسلوب إدارته لسورية الذي أفضى إلى ملف ضخم من المشاكل التي عانى منها الشعب السوري حتى طفح به الكيل ليخرج في شهر مارس الماضي مطالبا بأبسط حقوق الإنسانية والمواطنة، غير عابيء بنتائج بعض المحاولات السابقة التي رغم محدوديتها وبساطتها كلفته كثيرا من المتاعب والتضحيات. لقد وصل هذا الشعب المقهور إلى نقطة تحديد المصير، إما الانتصار على عقدة المواجهة لتأسيس مستقبل يطوي عذابات الماضي ويمسح ملامحه الكئيبة، أو البقاء تحت ذل الاستعباد ومصادرة إنسانيته وكرامته، فاختار طريق المستقبل دون تردد، وأصر على المضي فيه رغم كل ما واجهه من قسوة النظام التي لم يسجل تأريخنا العربي الحديث أبشع منها، وأسفرت إلى الآن عن ما يزيد على ألفي شهيد وآلاف الجرحى والمصابين والمشردين.. لقد خاب ظن الشعب السوري في مرحلة جديدة تغير بعض ملامح المرحلة الماضية عند قدوم الرئيس بشار الأسد إلى سدة الحكم كشاب متعلم ومتشرب بمفاهيم الزمن الراهن ومقتضياته ومتغيراته واشتراطاته. انتظر الشعب المتطلع بأمل لما سوف يتحقق من الوعود التي أطلقها رئيسه الجديد لكنه بعد طول انتظار تيقن أنه ليس ثمة أمل، فالرئيس الأمل قد ذاب في حظيرة الحزب وأصبح امتدادا للماضي بصورة أسوأ أثبتتها طريقة تعامله مع الاحتجاجات والمظاهرات السلمية التي انتشرت باتساع مساحة سورية. لطالما كان هذا النظام مريبا ومقلقا بتصرفاته وقراراته ومواقفه تجاه كثير من القضايا في المنطقة العربية، ومحيط جواره على وجه الخصوص. ليس ثمة دولة في هذه الدائرة لم يكن للنظام السوري معها موقف يثير التوتر، رغم عدم وجود سبب يمكنه تبرير هكذا موقف. اختلاق الذرائع لخلق الأزمات هو السمة التي تميزه. ورغم كل ذلك كانت الدول العربية المؤثرة تبذل جهودها إلى حد الإرهاق والإحراج لها لإخراج النظام السوري من تبعات مغامراته، ولا حاجة للتدليل على أن في مقدمة هذه الدول دائما المملكة العربية السعودية، انطلاقا من حرصها على الشعب السوري وتجنيبه تحمل تبعات ممارسات النظام. وهنا لا توجد ضرورة لمراجعة ملف الدعم السعودي المستمر لسورية في كل المجالات، والمبادرات العديدة لتخليصها من أزمات شائكة ومعقدة، رغم بعض المواقف السلبية والإساءات التي سجلها النظام السوري بحق المملكة، لكنها لم تلتفت اليها أو تبادلها بمثلها أو تجعلها سببا للتوتر في العلاقات، لأنها معنية بسورية الشعب العربي الشقيق في المقام الأول.. لقد كان ضروريا الإشارة إلى ما سبق بعد الخطاب الذي وجهه الملك عبدالله بن عبد العزيز للأشقاء في سورية مساء الأحد لأن الآلة الإعلامية للنظام ستبدأ التشكيك في نوايا وأهداف الخطاب، وستجتهد في إيجاد تخريجات وتفسيرات مغلوطة تتوهم أنها تساعد النظام على استمراره في ترديد مبرراته لبشاعة ما يرتكبه ضد الشعب السوري، وبالتالي لابد من المرور العابر على سجل المملكة في علاقتها وتعاملها ومواقفها مع سورية، حتى يتضح أنه لا يمكن المزايدة عليه أو التشكيك فيه، وبالتالي فإن أية محاولة لتفسير خطاب الملك عبدالله وفق تصور خارج عن هذا السياق تكون مغالطة كبرى تضيف مزيدا من الضرر لسورية، ولا تستطيع تشويه الأهداف النبيلة للخطاب، ولهذا السبب حرص الخطاب على تضمين فقرة تقول: «وتعلم سورية الشقيقة شعبا وحكومة مواقف المملكة معها في الماضي». وطالما كانت مواقف الماضي متسمة بنزاهة النوايا، ونبل الغايات فإن مواقف الحاضر لا بد أن تكون امتدادا لها.. وحين يكون خطاب الملك عبدالله تأريخيا، فإنه أيضا يضع النظام السوري في موقف تأريخي، ولو أراد النظام قراءة الخطاب بموضوعية وأمانة وتجرد فإنه لن يجد فيه إلا الوضوح والصدق والصراحة والمكاشفة التي تتوخى الحرص على سورية وشعبها.. فحين يقول الخطاب «إن تساقط الشهداء والجرحى ليس من الدين ولا من القيم والأخلاق» هل يستطيع أحد أن يجادل في ذلك؟؟ هل يستطيع إنسان شاهد ما تعرض له الشعب السوري من إبداعات التنكيل الوحشي أن يشك في أن ذلك ترفضه كل الديانات وتأباه القيم وتشمئز منه الأخلاق؟؟.. وعندما يؤكد الخطاب «أن ما يحدث في سورية لا تقبل به المملكة، فالحدث أكبر من أن تبرره الأسباب هل يمكن المزايدة على هذا الموقف الإنساني؟؟ فطالما ما يحدث ليس من الدين ولا من القيم والأخلاق، هل بوسع المملكة أن تستخدم تعبيرا آخر يعبر عن رفضها غير قولها أنها لا تقبله؟؟ وهل بوسع أي مجتمع أو أي شخص أينما كان في هذا العالم أن يشاهد ما يجري في سورية ويستخدم مفردات لا تعبر عن الرفض الصريح له؟؟ وهل الأسباب والذرائع التي يرددها النظام منذ بداية الأزمة كافية لتبرير المجازر الوحشية المستمرة ؟؟. ذلك هو الجانب الأخلاقي الإنساني في خطاب الملك، أما الجانب السياسي فيه والذي يعبر عن الرؤية العميقة الواعية لما يمكن أن يصل إليه الوضع في سورية فإنه بكل تأكيد نتيجة قراءة دقيقة للاحتمالات المتوقع حدوثها في وقت قريب جدا، والمبنية على معطيات واقعية وحقيقية.. لا يمكن أن يؤكد الخطاب أن سورية «في مفترق طرق الله أعلم أين تؤدي إليه» أو ينبه إلى أن «مستقبل سورية بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن تختار بإرادتها الحكمة أو تنجرف إلى أعمال الفوضى والضياع»، لا يمكن لخطاب رجل دولة كالملك عبدالله أن يركز على هذه الاحتمالات المخيفة إلا وهي تلوح في الأفق القريب إذا لم يتم «تفعيل الحكمة» و «تحكيم العقل» و «تنفيذ إصلاحات لا تغلفها الوعود، بل يحققها الواقع ليستشعرها إخوتنا السوريون في حياتهم، كرامة وعزة وكبرياء».. وهنا دعونا نسأل الرئيس بشار الأسد: ما العيب في استدراك الأمور قبل أن يشتعل الحريق الذي سيأتي على كل شيء؟؟.. وهل يستنكف عاقل دعوته إلى تفعيل الحكمة وتحكيم العقل، لا سيما حين تأتي من شقيق كبير محب للشعب السوري ومشفق عليه من مصير مظلم يراه ينسج خيوطه بسرعة تسابق الوقت؟؟.. إن الخطاب لا زال يؤكد على إمكانية تجنب هذا المصير من خلال إجراءات أجمعت البشرية كلها على ضرورة تنفيذها: وقف إراقة الدماء، إصلاحات حقيقية شاملة وسريعة.. فهل تعتقد يا فخامة الرئيس أن أي أحد على هذا الكوكب سيتعاطف مع حاكم يرفض هذه المطالب المستحقة ليجنب وطنه وشعبه أسوأ الإحتمالات؟؟.. كل المؤشرات تؤكد أن هذا الخطاب هو الرسالة الأخيرة والفرصة الأخيرة، فهل يستوعبها النظام السوري، أم يستمر في رهانه على شيطان البطش لتنتهي سورية في أتون الجحيم ؟؟.. آآآآآآآآه يا دمشق.. كأني بصاحب الخطاب ينشد حزينا ونحن نردد معه: وبي مما رمتك به الليالي جراحات لها في القلب عمق.