هل الصوم عادة أم عبادة؟ في الحديث المرفوع عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: «الخير عادة والشر لجاجة». أخرجه ابن ماجه، وابن حبان، وقد حسنه بعض أهل العلم. وهو أصل في أثر العادة وأهميتها في صناعة الشخصية، وإبراز المعنى الإيجابي لها. ويعززه الحديث المتفق عليه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنها: «... وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا.. وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا». عمل وآخر وثالث.. يتحول إلى عادة تطبع شخصيتك.. جمال الصدق يتحقق بموقف مباشر وسهل «يتحرى» فيه صاحبه الصدق حتى يتحول إلى سجية في أقواله وأفعاله ومواقفه. وفي نهاية المطاف يكتب عند الله صديقا، إذن فالصدق عادة، وهذا لا ينفي أنه عبادة وخلق نبوي كريم. وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا أثبته. رواه مسلم. وفي حديث آخر متفق عليه: «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل». هنا توافق بين العادة والعبادة. مشكلة العادة أن الإنسان يعملها دون تفكير، فينطق الكلمة أو يقود السيارة أو يحرك يده، أو ينتف شعره بطريقة عفوية آلية دون قصد، وقد ينكر الإنسان أنه يعمل الشيء، وهو يعمله، لكن دون إرادة. ثم عادات إيجابية ذات تأثير جوهري في النفس والحياة؛ اعتياد المرء على تخصيص ساعة للذكر، أو للقرآن، هو معنى جميل يخففه أن تكون النفس قد لانت له واعتادت عليه. حين جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله». رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. فالذكر هنا يتحول إلى عادة حسنة. علينا ألا ننظر إلى العادة كمفهوم سلبي حين نقول مثلا: الصلاة عبادة وليست عادة. هي عبادة حقا، وأن تكون عادة مستمرة فهذا خير، لكن ليس بمعنى أن المرء يفعلها مجاراة للناس، ولا بمعنى أنه يفعلها دون وعي أو خشوع أو حضور قلب. حسن أن تكون عباداتنا عادات بمعنى الديمومة والمواصلة، وحسن أن تكون عاداتنا عبادات بمعنى انتقاء الأفضل منها واستحضار النية الطيبة فيها. يستمتع المرء بفعل عادته، «ولكل امرئ من دهره ما تعودا». ومن ترك عادته فقد سعادته، فلكي تستمتع بالعبادة افعلها باستمرار حتى «تتعود» عليها، ولن تجد فيها الثقل الذي كنت تحسه في المرة الأولى. كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها». رواه أحمد، وأبو داود. فكانت الصلاة راحة نفسه وسرور قلبه، وكان يقول: «وجعلت قرة عيني في الصلاة». رواه أحمد، والنسائي، والحاكم. الخشوع ذاته عادة، فكلما شرعت في صلاتك فاجمع قلبك عليها، ودافع نوازع الغفلة، ربما شعرت بالحيرة أول الأمر والتردد، أما بعد سنوات من المجاهدة فستجد أن سجدة قصيرة وفي حالة انشغال تشحن قلبك بروحانية عالية وتجدد الإيمان والحب والأمل. اصدقني الحديث: هل تفرح برمضان؟ أم تشعر بالانقباض؟ أم هي مزيج من هذا وهذا؟ في جلسة قصيرة اتل بعض أحاديث في فضائل الصوم ورمضان، واستعرض حياتك وزلاتك، واستذكر حاجتك للعفو، واستحضر أن الذي شرعه لك هو الكريم الجواد المتفضل، صاحب الصفح والعفو، واسع المغفرة، وأنه لم يرد أن يعذبك بالصوم، فهو عن تعذيبك غني، أراد صفاء عقلك، وسخاء يدك، ونقاء قلبك، وصحة بدنك.. ستخرج من هذه الجلسة مسرورا محبورا أن أدركت رمضان، وكنت قادرا على صيامه. هذه الروح في أيام الشهر الأولى ستحفزك على صلاة التراويح أو ما تيسر منها، تأمل الأعداد الكبيرة التي تؤدي هذه الصلاة، ابحث عن جو رائق، وصوت حسن فلا حرج في هذا، صل ما شعرت بأن نفسك مقبلة، فإذا مللت فانصرف، ضع في بالك أن نفحة من رحماته تنزل على المصلين فتعمك معهم، «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم». في سجودك بح له بما يعلم من معاناتك وآلامك ونصبك وأحزانك، واطلب الصفح والتجاوز عن زلاتك مهما عظمت فهو أعظم وأكرم. ظن ظنا حسنا أنه سيقبلك بعجرك وبجرك، وغدراتك وفجراتك، وحسنك وقبيحك، وما تبت منه، وما نفسك لا زالت تنازعك إليه، فالحياة جهاد، وكلنا ذلك الإنسان الذي ربما ألمت به ثقلة الطين، وغلبته نوازع الهوى، وعرضت له الغفلة، وهو لا يزال يغفر ويتوب ويستر ويمهل، ولعل نهاية الأمر توبة صادقة لا رجعة فيها، وخاتمة حسنة، وزلفى، وحسن مآب «أنا عند ظن عبدي بي». رمضان سيصبح هنا نقطة تغيير، سيضيف جديدا إلى حياتك، سيكون تجربة إيمانية عامرة تمنحك أملا وتفاؤلا وسرورا وبهجة. اعطف على المسكين فهو شهر الزكاة والبذل، شارك في دعم مشروع خيري، وليكن لإغاثة المنكوبين بالمجاعة في القرن الإفريقي حظ من عطائك. حين تتفنن في اختيار الطعام تذكر من لا يجدون ما يسد الرمق، تذكر الأم التي تتردد أي صغارها تقدمه للموت أولا. ليكن من عادة رمضان أن يلم شمل الأسرة ويرسخ أواصر الود داخل المنزل، تصالح زوجين متهاجرين مما يحبه الرب العظيم، بعيدا عن المحاسبة وتبادل الاتهام بالخطأ أو التقصير، أو استذكار الماضي وفتح ملفات الأرشيف عند كل اختلاف. وليكن من عادتنا في هذا الموسم أن نجدد الصلة والمودة مع الأسرة الأوسع، والجيران، وزملاء العمل، والأصدقاء، ولتكن رسائل التهنئة وتبادل الدعوات عبر الهاتف أو الإنترنت أو البلاك بيري أداة لتواصل أوسع مع شريحة ربما نسيناها أو نسيتنا.. هل الأفضل أن نصنع لأنفسنا «صدمة» في رمضان بتحول مفاجئ وقوي؟ أم خيار «التدريج» أولى؟ كل وما يختار، ربما الصدمة أفضل لك، وأنت تتحملها ومستعد لها، أما أنا فأميل إلى التدريج، وهو أحسن في ترويض نفسي وفطامها عن العادات السيئة. هنا ستحكم الحصار على وقت الفراغ، وتشغل نفسك بالحق عن الباطل. التسوق والاستهلاك والسهر الطويل والولع بالمسلسلات والهوس الرياضي لن تجد قلوبا خاوية.. ولن تكون هي سيدة الموقف، سنتحكم فيها بدلا من أن تتحكم هي فينا، وسيكون فينا من يضع على الشاشة لافتة «مغلق للإصلاح»، أو من ينتقي ويختار ويحكم ويتحكم.