تذمرت سعدية، وهي امرأة مسنة، من تأخر معاملتها المتعلقة بالإرث في المحكمة العامة في الباحة، والتي ظلت كما تقول عبر ثلاث سنوات تعاني مع بعض القضاة في المحكمة بسبب عدم التزامهم بالمواعيد والدوام، ومازالت نهاية قصة إرثها سبق أن نشرتها «عكاظ». ولا تقل معاناة رياض الزهراني عن سعدية؛ فرياض الذي ينتظر الفصل الأخير في قضية حقوقية تخصه في المحكمة الجزائية في جدة لا يعرف شكل القاضي المباشر لقضيته بسبب عدم التزامه بالدوام على حد وصفه، فكلما ذهب رياض في الموعد الذي حدده القاضي يفاجأ بعدم حضوره أو تأخره في الموعد أو حصوله على إجازة لترحل قضيته إلى جلسة أخرى بعد ثلاثة أشهر أو أربعة، ومازال ينتظر رياض لقضيته حلا رغم الشكاوى التي رفعها من أجل إنهاء معاناته. يقول «الوضع غير مرتب، خصوصا فيما يتعلق بدوام بعض القضاة وعدم التزام بعضهم بالمواعيد، والمشكلة الكبرى أن بعض القضاة يمنحك موعدا في الساعة الثامنة لتفاجأ بأنه تأخر عن الحضور لمدة ساعة أو ساعتين، والمراجعون ما زالوا ينتظرون قدومه، وبعد ذلك يتم ترحيل القضايا إلى مواعيد أخرى في أوقات بعيدة مما تسبب في تعطل قضايا الناس وتكدسها». ولفت رياض إلى أن القاضي عليه أن يحضر ثماني جلسات يوميا من الساعة الثامنة إلى الساعة الثانية عشرة والنصف، ليعطي كل قضية نصف ساعة لكن عدم التزام القضاة بالمواعيد وتأخرهم في الحضور يعطل قضايا الناس ويربك أعمالهم ولا يراعي مصالحهم على حد قوله. مضيفا «لو تقمص أي شخص دور المراجع وأتى للمحكمة سيرى بنفسه حقيقة ما أقول، كما أنه يمكن سؤال أصحاب القضايا عن سبب تعطل قضاياهم؛ فلو وقف أي شخص على باب المحكمة لمدة عشر دقائق سيعرف مدى تذمر الناس من تأخر بعض القضاة في الدوام وعدم حضورهم في المواعيد المطلوبة». الرقابة ضعيفة وقال الزهراني «بحكم مراجعتي الدائمة للمحاكم فإنني أرى أن القاضي إذا تأخر فإن القضية ترحل ل 90 يوميا إضافيا، أما إذا تأخر المراجع لمدة خمس دقائق فإن قضيته تشطب وهو ما حدث معي في أحد الأيام، حيث نزلت إلى الكافتيريا لشراء قارورة من الماء لأفاجأ بشطب قضيتي لتأخري، وطالب الزهراني بضرورة تشديد الرقابة على القضاة ومعاقبة المتأخرين منهم» مشيرا إلى أن التأخير في المعاملات يعرقل مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء الذي يهدف لتحقيق المنفعة للجميع، ويستثني الزهراني عددا من القضاة المعروفين بالتزامهم وحرصهم الكبير على المواعيد والدوام والإنتاجية، معتبرا إياهم نماذج يجب أن تحتذى. ويسرد غازي معاناته مع عدم التزام القضاة بدوامهم قائلا «منذ أكثر من عام وجلستي تترحل بسبب عدم التزام القاضي بدوامه وتأخره في المواعيد ما تسبب في ترحيل قضيتي أكثر من مرة في المحكمة الجزائية في مكة»، مشيرا إلى أن القاضي يعطي مواعيد ولا يأتي في الوقت المحدد ما يتسبب في تكدس القضايا، لافتا إلى أن بعض القضاة قد يكون مزاجهم معكرا فيرفضون النظر في القضايا، مؤكدا على أهمية تشديد الرقابة ومعاقبة المتأخر مراعاة لمصالح الناس. هذه الشكاوى وغيرها دفعت المقام السامي للتعميم على مجلس القضاء الأعلى بضرورة حث القضاة على ضرورة الالتزام بالدوام الرسمي لما ورد من شكاوى في هذا الخصوص. وقد أصدر رئيس المجلس الأعلى للقضاء الدكتور صالح بن حميد تعميما لكافة القضاة يقضي بضرورة التقيد بساعات العمل والحرص على ذلك، وقد نص التعميم على أن وقت الدوام ملك للدولة ولا يحق لأحد أن يفرط فيه في غير ما وضع له، والقضاة أولى الناس بالالتزام بما حدده ولي الأمر وهم القدوة لموظفيهم لأداء الواجب، وأنه لابد من التقيد بالدوام الرسمي من بدايته حتى نهايته، ولا يحق لأحد مغادرة العمل إلا بموافقة صريحة. وأكد في التعميم ذاته على القضاة وجوب ضبط الخصوم خلال جلسات القضاء. كما كلف ابن حميد إدارة التفتيش القضائي بالمجلس بمتابعة دوام القضاة في مختلف مناطق المملكة خلال جولات الإدارة التفتيشية على المحاكم والرفع لرئيس المجلس عن أي تقصير أو تهاون في الالتزام بساعات الدوام. تصريح سابق خطوة المجلس الأعلى للقضاء سبقها تصريح لوزير العدل السابق الدكتور عبدالله محمد آل الشيخ رأى فيه أنه من غير اللائق أن يكون للقاضي كرت دوام، مبينا أن القاضي لا يلزم بتوقيع القدوم أو الانصراف، أو يكون له كروت دوام، ولا يليق بشخص بمنزلة القاضي أن يقوم بمثل ذلك، مشيرا إلى أن القاضي لا يحكم وهو في حالة غضب، ولكن التزام القاضي بالحضور، ومتابعة جوانب أخرى، ولا يقتصر الأمر فقط على النطق بالحكم. ليأتي وزير العدل الدكتور محمد العيسى ليعارض من يشدد في الحديث عن دوام القضاة قائلا «لا أعلم أن هناك قضاة يداومون في مكاتبهم في العالم إلا في المملكة ودول خليجية مجاورة»، مشيرا إلى أنه في بعض الدول ومنها دول عربية يحضر القضاة الجلسات ويبتون فيها دون أن يكون هناك دوام كامل، موضحا أنه لا يجب مقارنة الأطباء وأساتذة الجامعات بالقضاة، مؤكداً أنهم يمارسون أعمالا إدارية شاقة تتطلب كتابة وقائع وإصدار أحكام تحتاج إلى خلوة علمية. وأضاف «عندما كنت قاضيا لا أعلم أنني كتبت حكماً داخل المحكمة لضغط العمل اليومي مما اضطرني بسبب ذلك لكتابة الحكم في منزلي». وعادت وزارة العدل لتدافع عن القضاة في بيان صدر عن إبراهيم صالح الطيار مدير إدارة الإعلام والنشر في وزارة العدل قال فيه «إن القاضي يتقيد بدوام الدولة الرسمي ويخرج ليواصل دواماً آخر لا مقابل له سوى احتسابه الشرعي والوطني». وأوضح أن القاضي يتابع عمله في البحث والدراسة وكتابة الأحكام في خلواته العلمية خارج وقت الدوام وكلها محسوبة على العمل، مشيراً إلى أن جل القضاة يواصلون ليلهم بنهارهم لكتابة الوقائع والأسباب وصولا إلى منطوق الحكم دون أن يأخذ على هذه الزيادة من العمل مقابلا ماديا، موضحا أن التحقق من مناطق الحق في بعض الدعاوى يتطلب وقتاً، فيما بعض المترافعين لا يقدر هذا القدر المهم الواجب مراعاته في أمد القضية؛ لأن الهدف هو الوصول إلى الحق بعدالة ناجزة قدر الإمكان، فإن لم يكن فالعدالة لها الاعتبار الأول في كل شيء. «عكاظ» فتحت ملف تذمر بعض المتقاضين ومراجعي المحاكم الشرعية من تأخر بعض القضاة باحثة عن أسبابه والمعوقات التي تقف في طريق القاضي لأداء عمله والحلول لمواجهة ذلك عبر ملف متكامل سنتداول في الجزء الأول منه آراء المحامين والمستشارين القانونيين مع القضاة ورأي هيئة كبار العلماء في سياق التحقيق التالي: بداية يؤكد المحامي أحمد السديري على وجود تأخر كبير من بعض القضاة وعدم التزامهم بالدوام مما تسبب في تكدس القضايا في ظل قلة القضاة وكثرة القضايا المطروحة عليهم وقضاء القاضي وقته في دراسة القضايا داخل مكتبه دون أن يأخذها معه إلى المنزل ليدرسها بشكل متأن ودقيق، وأرجع السديري سبب هذا التأخر إلى تعود بعض القضاة على عدم المحاسبة سابقا، ورفض السديري تعميم ذلك على كل القضاة لكنه يرى أن التأخير أمر ملموس وملاحظ. وطالب السديري بضرورة زيادة أعداد المفتشين القضائيين ومحاسبة القضاة المتأخرين والتشديد عليهم، مؤكدا أن القضاة لو حوسبوا لما تكررت مخالفتهم، داعيا إلى عدم إشغال القضاة بقضايا إدارية مثل إثبات الوفاة والحياة والاسم وغيرها والتي تضيع أوقاتهم على حساب قضايا أكثر أهمية، وأكد السديري على ضرورة إيجاد مساعدين يعينون القضاة على الأعمال الإدارية لتفريغ القاضي لدراسة القضية وإصدار الحكم المناسب، ولفت السديري إلى أهمية السماح للقضاة بأخذ القضايا لمنازلهم لدراستها. ويؤكد المحامي والحقوقي الدكتور عدنان الزهراني أن تأخر بعض القضاة يشكل ظاهرة وليس مشكلة صغيرة، مشددا على أن التأخر يكثر في محاكم المدن الصغيرة، مشيرا إلى أن بعض القضاة في هذه المحاكم يسقط من حساباته إعطاء مواعيد يومي السبت والأربعاء، وأشار الزهراني إلى أن كثيرا من القضاة يتأخرون في مواعيد دوامهم ولا ينجزون القضايا التي تحت أيديهم ويتأخرون في إصدار الأحكام، وأرجع ذلك إلى تعود القضاة على الحضور المتأخر، ولاحظ الزهراني أن بعض القضاة يبحث عن الأعذار لتأجيل القضية مثل كتابة المعروض أو تعديل الاسم فيه وخلاف ذلك من الأمور التي يمكن قضاؤها في دقائق معدودة لتؤجل القضية لأشهر، وطالب الزهراني القضاة بالالتزام بمواعيد الجلسات ومحاولة حل قضايا الناس دون تأخير مع ضرورة وجود قاض يخلف من يغيب حتى لا يعطل الناس، معتبرا أن خطاب المقام السامي جاء في الزمان المناسب، مؤكدا أنه لو التزم القضاة بالدوام لحلت 50 في المائة من مشكلات قلة القضاة وكثرة القضايا. التزام القضاة رأي المحامي طارق الشامي لم يختلف عن رأيي السديري والزهراني؛ إذ يرى أن المحامين يعانون مع موكليهم من قضية عدم التزام بعض القضاة بالدوام مطالبا بدراسة هذا الأمر ووضع حلول عاجلة له، معتبرا أن الجيل الجديد من القضاة أكثر تأخرا من القضاة المخضرمين، ودعا الشامي إلى تفعيل التفتيش القضائي ومحاسبته المقصرين وقراءة ما يصدر عنهم من مخالفات وتوجيههم بشكل يحد من تأخرهم ولا يعطل مصالح الناس المتضررة. ورأى المستشار والباحث القانوني مفلح الأشجعي أن تأخر بعض القضاة لا يتوقف ضرره على المحامين بل أيضا يشمل من يباشرون دعاواهم بأنفسهم في أروقة المحاكم خاصة أولئك القادمين لمواصلة قضاياهم في بلد من يدعون عليه حسب النظام ثم يفاجأون بعدم وجود القاضي أو تأخير موعد النظر في دعاواهم لعدة ساعات من ساعة تبليغهم بالموعد. وبين الأشجعي أن خطاب المقام السامي للمجلس الأعلى للقضاء ليس الأول فقد صدر قبل هذا الخطاب عدة خطابات من بينها خطاب وزير العدل رقم 13/ت/1680 في 25/11/1421ه المبني على الأمر السامي الكريم رقم خ/1322/م في 11/11/1421ه، والمتضمن سرعة إنجاز المعاملات، حيث لاحظ المقام السامي كثرة التظلمات والشكاوى الواردة إليه في أمور لا تحتاج لأكثر من جلسة أو جلستين للبت فيها إلا أن الأمر يبقى شهورا أو حتى سنوات، وهو أمر مرفوض تماما ومرفوضة الأعذار فيه، مشيرا إلى أن القضاة أحد المقصودين في ذلك التعميم بصفتهم موظفين في سلك الدولة، والعبء الأكبر يقع على عاتقهم في هذا الشأن، ولاحظ الأشجعي أن الأعمال الإدارية الملقاة على عاتق القضاة تعتبر سببا مهما وجوهريا في تأخر القضاة وإثقال كاهلهم بالأمور الإدارية والتي من المفترض إعفاؤهم بتاتا منها ليتفرغوا للفصل في المنازعات والخصومات. تصرفات قائمة واختلف المحامي سلطان بن زاحم مع آراء من سبقوه في أن عدم التزام القضاة بأوقات الدوام وعدم تطبيقهم للأنظمة هي تصرفات في مجملها مازالت موجودة ولكنها ليست بالظاهرة، مشيرا إلى تحسن دور التقاضي داخل أروقتة المحاكم بشكل ملفت، وهذا يرجع لبدء التطبيق الفعلي لاستراتيجية مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء من وزارة العدل، مبينا أن غالب القصور الملحوظ في المحاكم المتفرعة، مؤكدا أنها تنعكس سلبا على تعطيل حقوق المتخاصمين المقررة بموجب الأنظمة والتعليمات. وأضاف «ما يؤكد عليه كثير من المختصين أن وزارة العدل سباقة في تطوير هندسة أدوات إجراءات التقاضي، وميكنة آلياته من خلال التوأمة المستوحاة من الدول المتقدمة» وزاد «وفي المقابل فإن للمجلس الأعلى للقضاء إنجازات ملموسة، وفي مقدمتها إصدار لائحة التفتيش القضائي، وإعادة آلية تطبيقه بشكل أدق ليتميز القاضي المجتهد عن غيره بالتعامل مع إجراءات القضية، وحسن إدارة المكتب القضائي، والحفاظ على حقوق المتخاصمين، وحق الدفاع». وكشف عن توجه بعض المحامين والمختصين بالجانب الحقوقي لتقديم مقترح لرئيس المجلس الأعلى للقضاء يتمثل في تعويض أخطاء السلطة القضائية، والمقررة في بعض تشريعات الدول المتقدمة ومنها العربية، ولها أصل في مبادئ الشريعة، مبينا أنه قد أشار إليها فقهاء القانون الإداري في مؤلفاتهم بشكل موسع، وتطرقوا بصورة موجزة إلى صورتين من هذا التعويض، الأولى ما يتحمله مرجع القاضي، والثانية ما يتحمله القاضي بذمته الشخصية، والصورة الأولى تتحقق إذا كان الضرر الواقع نتيجة خطأ صدر من القاضي وكان في حدود سلطته الوظيفية، والثانية إذا كان الضرر نتيجة تصرف خارج عن صلاحيات القاضي وهو ما يعرف بانحراف السلطة أو إساءة استخدام السلطة. وزاد ابن زاحم «إذا نظرنا إلى نظام القضاء الصادر بالأمر الملكي رقم (م /79) وتاريخ 19/9/1428ه نلاحظ أنه قد أورد في مادته الرابعة بشكل صريح إلى جواز مخاصمة القاضي، لذا فإنه من السهل الاعتراف بمبدأ تعويض أخطاء السلطة القضائية ومن ضمنها التأخير في بت القضايا بسبب عدم التزام بعض القضاة.