بثت إذاعة " يو إف إم " السعودية - قبل أيام - في برنامجها " فتواكم " , تعليقا - لمعالي الشيخ - عبد المحسن العبيكان , وهو يتحدث بكل شفافية , ومصداقية عن شكاوى الناس من أداء بعض القضاة , - خاصة - فيما يتعلق بتأخير البت في القضايا المطروحة أمام القاضي . هذه الكلمات التي نطق بها ابن القضاء , تؤكد على أن المواطن أمام مشكلة حقيقية , وهي : تأخر البت في القضايا المنظورة في ساحات القضاء , وأصبحت مشكلة تؤرق الجهات العدلية , حتى وصلت الأمور بإعلان المجلس الأعلى للقضاء عن استعداده ؛ لتلقي شكاوى المتضررين من تأخر قضاياهم المنظورة في المحاكم ، وأن الذين يعانون من تأخر مواعيد قضاياهم في المحاكم , أو لديهم ملاحظات على بعض القضاة , يمكنهم التقدم بشكوى إلى المجلس , - خصوصا - أنه الجهة المعنية بذلك ، وستتم إحالة كافة القضايا للجنة التأديب , واللجان الأخرى المختصة بالمنازعات , - إضافة - إلى وجود أربعة أعضاء دائمين في المجلس , واثنين غير متفرغين ، للنظر فيها . الإعلان المشار إليه من المجلس الأعلى للقضاء , - إضافة - إلى وجود لائحة للتفتيش القضائي , يهدف في محصلته النهائية إلى جودة الأداء , وسرعة الإنجاز , وتسريع مدة التقاضي , وتقريب مواعيد إصدار الأحكام , وهي من أهم الأهداف التي تحاول المحاكم الشرعية تحقيقها , وهو من حيث التأصيل النظري مشروع , مع أني على يقين لو أن القاضي حوسب على تأخيره للقضايا ؛ لما تكررت مخالفته , وهو ما يستدعي إعادة آلية تطبيق لائحة التفتيش القضائي بشكل أدق . إن الوصول إلى حكم قضائي عادل , وناجز في كافة القضايا المعروضة أمام القضاء - مطلب مهم - , بعد أن ملّ الناس من تأخر الفصل في قضاياهم أعواما عديدة , بل وصل بعضها إلى أزمنة مديدة من العقود . وهم لا يعرفون السبب الحقيقي وراء تأخيرها , مع أن العدل أساس قيام الأمم , باعتباره أحد أركان الأمن , واستقراره ؛ لما يترتب عليه من إظهار الحق , وإيصاله إلى مستحقه . إن مما يكفل حقوق الناس , ويحفظها وجود دوائر ؛ لتدقيق الأحكام القضائية , وأخرى تنظيمية , تضبط شؤون القضاة , وتراقب أداءهم , وتحاسب المقصر منهم . وقد كفل النظام لأصحاب الحقوق , حرية مخاطبة وزارة العدل , والمجلس الأعلى للقضاء , والتظلم لديها ضد تصرفات المقصرين من القضاة . كما أن ولاة الأمر - وفقهم الله - كفلوا للناس حرية التعبير , والنشر في وسائل الإعلام , ضمن ضوابط النشر المعروفة ، وليس أحد من موظفي الدولة , وإداراتها , مستثنى من توجيه النقد له , أو الاعتراض على قراراته في وسائل النشر المعلنة . بل لا يكاد يمر يوم , لم نسمع في وسائل إعلامنا , أو نقرأ في صحفنا نقدا , أو اعتراضا على وزارة , أو إدارة , ما دام الناشر ملتزما بتوثيق ما يقول . وغني عن القول : إن هناك فرق شاسع بين الدين , وأفراد المسلمين , والتعليم , وأفراد المعلمين ، والطب , وأفراد الأطباء ، والقضاء الشرعي , وأفراد القضاة . فالدين , والتعليم , والطب , والقضاء الشرعي من القيم الثابتة , التي لا يتصور نقدها ؛ أما أفراد المسلمين , والمعلمين , والأطباء , والقضاة , فهم بشر يصيبون , ويخطئون , وينتقدون , ويقومون ، وليس ذلك انتقاصا للقيم التي ينتمون إليها ، وإنما هو محافظة عليها من أن يشوبها سوء تطبيق , يشوه صفاءها , حتى لا تظلم القيم الثابتة ، ولا يعمم الخطأ على جميع المنتمين لها ، وإنما يتحمل كلٌ ما جنت يداه , لقوله - تعالي - : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " . كتب مرة - القاضي بديوان المظالم - يوسف العويد عن هذه الإشكالية , وضرب مثلا ببعض الدول المتقدمة , كأمريكا , وإيطاليا , باعتبارهما من الدول التي تعاني من أزمة في ذلك . فكان من ضمن الحلول , أن عكف فريق من المختصين في أمريكا على جمع أفضل الممارسات المتبعة في الولاياتالمتحدة الأميركية ؛ للحد من التأخر في إصدار الأحكام القضائية ، ومن ثم قاموا بتصنيفها في مؤلف - دليل إرشادي لأفضل الممارسات المتبعة في إدارة القضايا والحد من التأخر في إصدار الأحكام القضائية - , بحيث يسترشد بها جميع القضاة في ولاية " لويزيانا " . فكانت تلك الجهود , استجابة للقسم الثاني عشر من قواعد , وقوانين المحكمة العليا الأميركية , والتي تنص على ضرورة توجيه القاضي كل جهده ؛ من أجل إصدار أحكام عادلة - في أقل وقت ممكن - . أما في ايطاليا , ففي تنفيذ خططها لإصلاح القضاء , وافقت أغلبية برلمانية في " 4/2011 م " , على مشروع تخفيض مدد المحاكمات ، وهو المشروع الذي يلقى اعتراضاً شرساً , بسبب ما يتوقعه المعارضون من تحقيقه مكاسب سياسية . يقول - القاضي - يوسف : وقد وقع أمامي مجموعة من الدراسات الدولية المتعلقة بهذا الشأن , حملت العناوين الآتية : " المنازعات الحديثة , والتأخر في إصدار الأحكام في إيطاليا / 2009م - مشروع جمعية - لي موندي الدولية - / 2002م - , نظرة عامة على معوقات الإصلاح القضائي , وأثر ذلك على التنمية الاقتصادية / 1999م - التأخير في إصدار الأحكام القضائية : المسببات , والعلاج / 1982م - معايير الأداء في محاكم الولاياتالمتحدةالأمريكية / 2003م - , التأخر في إصدار الأحكام في محاكم الاستئناف / 1981م - التأخر في إصدار الأحكام , ودور ذلك في تعطيل انضمام كرواتيا إلى الاتحاد الأوروبي / 2004م - , كتيب إدارة الدعاوى القضائية المعقدة / 2010م - , التكيف مع العدد الكبير من القضايا / 1999م - , الإدارة الزمنية للقضايا / 2005م " . وبعض تلك الدراسات , تزيد على مائتي صفحة بالمفهوم المتخلص من الترهلات الكتابية. خلاصة تلك الدراسات , تشير إلى الآتي: 1 / أنه في ظل عدم اتفاق الباحثين , والمنظرين على المعالم المثالية لمشاريع الإصلاح القضائي , فلابد من أن يسبق أي مشروع من المشاريع التطويرية أبحاث , ودراسات مستفيضة , تمكن من فهم طبيعة عناصر القوة في البلد الذي يريد تطبيق الإصلاح القضائي ، ومن ثم دراسة الاحتياجات الخاصة لذلك البلد. 2 / أن المُسوغات الرئيسية لأي عملية إصلاح قضائي فعالة , تعتمد على : أ / تحقيق استقلالية النظام القضائي . ب / تسريع عملية التعامل مع القضايا , وإصدار الأحكام القضائية . ج / تعزيز استخدام الوسائل البديلة ؛ لفض النزاعات . د / تقديم برامج تدريبية للقضاة , والمحامين , وكل المعنيين في السلك القضائي ، وزيادة عدد برامج المحاماة في الجامعات ، ودعم البرامج الجامعية - من خلال - رفدها بمصادر التعلم , والاستشارة الأكاديمية , بحيث تصبح المناهج قادرة على مواكبة الاحتياجات المتزايدة في المجتمع. 3 / أن النظام القضائي الفعال , - من شأنه - دفع عجلة التنمية الاقتصادية . 4 / أن التأخر في إصدار الأحكام - وفقاً لنظرية قراقل - , يزيد من التكاليف المالية المترتبة على المتنازعين , مما يدفعهم إلى التسوية , أي : يقلل من الطلب على النظام القضائي . 5 / أن بعض الدول لديها برامج , تحتوي على : توفير آليات ؛ للكشف المبكر عن الدعاوى القضائية المعقدة , ومنها : تكليف مستشار قانوني ؛ لتحديد القضايا الرئيسية ، وأي صعوبات قد يواجهها القضاة في وقت مبكر . وتوفير تقنيات تمكن المحكمة من التنبؤ بالمشاكل قبل حدوثها , بدلاً من انتظار المستشار القانوني حتى يطرحها . ومواصلة رصد التقدم المحرز في القضية ؛ للتأكد من أن المحامين , أو أطراف الدعوى , يعملون بالشكل المناسب في إدارة القضية , وتحديد ما إذا كانت عملية إدارة القضية , تحتاج إلى التعديل . واعتماد إجراءات - خاصة - ، حسب الاقتضاء ؛ لإدارة الأعمال الصعبة التي طال أمدها , أو يحتمل أنها تنطوي على مسائل معقدة ، ومسائل قانونية صعبة ، أو محاكمة غير عادية , أو مشاكل إثبات الأدلة . 6 / أنه مع وجود الأساليب الذي يمكن استخدامها قبل البدء بالمحاكمة , بغية الحد من التأخر في إصدار الأحكام ، فإن من الضروري وضع جملة كبيرة من الإرشادات للقضاة , تساعدهم على حسم إصدار الأحكام في أقل وقت . بل إن من المهم , عرض ميزات للقضاة الذين يتعاملون مع القضايا بفاعلية , بدون إهدار الوقت ، وكذلك في عناصر الإدارة الفاعلة للقضايا ، وأهمية وضع أدلة توجيهية للقاضي , تجنبه أي تعطيلات في عقد الجلسات , وإقامة الدعاوى ؛ لأسباب متعلقة بالمحامين , أو المتنازعين . 7 / أن هذه المشكلة لا يستطيع حلها القضاة بأنفسهم ، ولا الجهة المعنية بإدارة مرفق العدالة - وحدها - ، وأن الحلول المميزة نتجت من تلاحم قوة القضاة بالمحامين , تحت غطاء الدولة - ممثلة - بوزارات العدل. - دائما - ما يتحدثون عن الإشكالية في أعداد القضاة , وأن عددهم يصل إلى " 1500 " قاضي في مختلف مناطق المملكة , ويقارنون ذلك بحجم السكان , مع أن وزير العدل - الدكتور - محمد العيسى , يصرح في مناسبات عديدة , بأن : " معدل توفر القضاة في القضايا بالمملكة , يفوق المعدل العالمي " . بل تشير الإحصائيات عن المحكمة العامة بالرياض , على سبيل المثال : بأنه يتوفر في المحكمة من غير الكادر القضائي " 618 " موظفا , أي : بمعدل " 15 " موظفا مقابل كل قاض , وأن ذلك يعتبر عددا مناسبا جدا , حسب التشكيلات الوظيفية المعتمدة لهذا المستوى من المحاكم العامة , وهو ما يقفل - أيضا - باب النقاش في هذا الجانب . ومع هذه الاعتبارات , فهم لا يتحدثون عن تأخر بعض القضاة , في الحضور إلى مكاتبهم في الموعد المحدد , وعدم التزامهم بأوقات الدوام الرسمي . ويشهد على تلك الإشكالية أحد قضاة التمييز - فضيلة الشيخ - محمد الفواز , ممن أمضى أكثر من أربعين سنة في مرفق القضاء , إذ يقول تعليقا على المشهد : " ثم لا ننسى ضعف الرقابة على دوام القضاة , وتأخرهم في الحضور , وتعجلهم في الانصراف ، ما يفضي إلى زيادة المعاناة من تراكم القضايا , وتأخر البت فيها ، - وللأسف - عدم تفعيل دور التفتيش القضائي , وكذلك ضعف الإشراف المباشر من رئيس المحكمة ، ولا سلطان على القضاء في الأحكام , وليس في الانضباط ، بل بالعكس لا بد أن يكونوا قدوة لغيرهم , ومثالاً يحتذى بهم . فالنقص من أنفسنا , وليس من قلة عددنا ، فلو اكتملت العناصر , لم يكن هناك أي تأخر , أو معاناة تذكر ، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين , ويردهم إلى الحق , والصواب." وقد أكد مصدر قضائي مطلع , رصده للعديد من الملاحظات , والشكاوى على أداء بعض القضاة في بعض المحاكم , وأن الملاحظات بحسب المصدر , تضمنت : التأخر في البت في إصدار الأحكام , وانشغال بعض القضاة بأعباء إدارية ، وقال : إن الرصد كشف عن أن ثلث القضايا في المحاكم السعودية معطلة . ولا زلت أذكر جيدا خطاب المقام السامي للمجلس الأعلى للقضاء , وهو ليس الأول , فقد صدر قبل هذا الخطاب , عدة خطابات من بينها : خطاب وزير العدل رقم : " 13 / ت / 1680 " , في 25 / 11 / 1421 ه , المبني على الأمر السامي الكريم , رقم : خ / 1322 / م , في 11 / 11 / 1421 ه , والمتضمن سرعة إنجاز المعاملات . حيث لاحظ المقام السامي كثرة التظلمات , والشكاوى الواردة إليه في أمور لا تحتاج لأكثر من جلسة , أو جلستين ؛ للبت فيها , إلا أن الأمر يبقى شهورا , أو حتى سنوات . وهو أمر مرفوض تماما , ومرفوضة الأعذار فيه . مع أن نظام القضاء الصادر بالأمر الملكي , رقم : " م / 79 " , وتاريخ : 19 / 9 / 1428 ه , نلاحظ : أنه قد أورد في مادته الرابعة بشكل صريح , إلى جواز مخاصمة القاضي , - لذا - فإنه من السهل الاعتراف بمبدأ تعويض أخطاء السلطة القضائية , ومن ضمنها : التأخير في بت القضايا , بسبب عدم التزام بعض القضاة . إن العمل على إعداد دورات للقضاة ؛ من أجل تأهيلهم , وتثقيفهم بالأنظمة العدلية , وكيفية التعامل معها , - إضافة - إلى تفعيل القضاء المتخصص , كتفعيل المحاكم المرورية , والعمالية , وغيرهما من المحاكم الأخرى , سيخفف العبء على المحاكم العامة , وسيسهم في سرعة البت في القضايا المختلفة في إطار هيكلة تنظيمية متطورة , وحسب الأنظمة المتبعة . وهو أحد أهم أهداف مشروع خادم الحرمين الشريفين - الملك - عبد الله بن عبد العزيز ؛ لتطوير مرفق القضاء , والذي صدر في : 19 / 9 / 1428 ه ؛ من أجل حفظ جناب الحق , ورعايته . ما بين مفرط في التفاؤل , ومغرق في التشاؤم , يصطدم الواقع بالانعكاسات السلبية الناتجة عن تأخير البت في القضايا المنظورة أمام القضاء على كل من : عدالة المحكمة , وأصحاب الحقوق , فتأثير القضايا يشكل ضغطا كبيرا على القضاة , ويؤثر سلبا في سير القضايا , وهو ما يتنافى مع تكريس قيم العدالة , والمساواة , والشفافية , كما أنه لا ينسجم مع مطالب الإصلاح .