الإنسان مبدع بطبعه، فهو ذو عقلٍ مفتوح ومرن، وهذا العقل ساعد الإنسان الذي يخوض معترك الحياة على مدى التاريخ المديد على ابتكار وسائل وطرق جديدة لحياة أفضل وأكثر أمنا وراحة. إنه لا يكتفي بما هو موجود أمامه في الطبيعة كما تفعل الكائنات الأخرى التي لا تتطور بذاتها ( بوعي وإدراك وتدبير منها) وإنما بسبب ظروف خارجة عن إرادتها. وقد يكون تطور حياة الإنسان وتاريخه أوضح برهان على قدرته الإبداعية. فلولا هذه القدرة لما كان له أن يطور نفسه ويحسن ظروف معيشته ويبني الحضارات وينشئ الدول والمجتمعات بكل ما تنطوي عليه من معارف وعلوم ومهارات وعلاقات متطورة، وحينما نقول إن الإنسان مبدع بطبعه فلا يلزم من هذا أن كل فرد من أفراد البشر مبدع، بل المراد أن النوع الإنساني يطمح إلى التطور، ولذا فهو لا يخلو من وجود مجموعة من المبدعين التي تستجيب لهذا الطموح. والحديث عن الإبداع يستدعي الحديث عن نقيضه؛ ألا وهو التقليد. فالتقليد في تعريفه هو السير في الطرق نفسها واستعمال السبل ذاتها التي كان السلف يسير فيها ويستعملها. وقد أفضنا في وصف وفحص هذا المفهوم في مقالات سابقة، وتطرقنا إلى الأسباب التي تفضي إليه. ولن نذكر منها سوى ما يتصل بموضوعنا اليوم. من الجلي أن أهم عوائق الإبداع عند البشر والمجتمعات البشرية هو التقليد النابع إما من تقدير السلف أو الخوف من الإتيان بالجديد الذي قد يهدد الوجود الاجتماعي والاعتباري للمرء. والتقدير للسلف يتحول مع مرور الزمن إلى تبجيلهم وتقديسهم بصورة مدمرة للروح الإبداعية، ويكفي أنه يفقد الثقة في النفس. فتراه في مأكله ومشربه وملبسه وطريقة حياته وتفاصيلها لا يزال مرتهنا للسلف ولعاداتهم. على أن تقدير وتقديس السلف ليس هو العامل الوحيد، فهناك تقدير وتقديس «الآخر»؛ ما هو خارج «الأنا» الحضارية. إن الإعجاب المفرط بالآخر وبمنجزاته لا يقل فظاعة وإهدارا للطاقة الإبداعية من تقليد السلف والإعجاب بهم. والنتائج التاريخية التي يؤدي إليها مثل هذا الإعجاب الزائد عن الحد هو شيوع نمط ثقافي اجتماعي يمكن تسميته ب «الثقافة التقليدية», بخلاف «الثقافة الإبداعية». فالثقافة التقليدية تستمرئ التقليد ويطيب لها محاكاة النماذج الإبداعية الأخرى لدرجة أنها لا تعود إلى الكون ولا إلى نفسها بمنظورها «الإبداعي» الخاص، بل تستعير من أجل ذلك عيون الآخرين وآذانهم وقلوبهم! حتى إنها لا ترى أمراضها وعيوبها كما يجب أن يفعل ذو البصر والبصيرة. إنها ببساطة ثقافة قاتلة للإبداع. كل ذلك يؤدي إلى ما أسميناه في العنوان ب «احتكار الإبداع». أجل، ففي التاريخ العالمي المعاصر تم احتكار الإبداع من قبل ثقافة واحدة، وما على بقية الثقافات سوى أن تحاكيها وتقتبس منها، وثقافتنا العربية من بين تلك الثقافات التقليدية. وإذا كانت الثقافة الإبداعية تورث الروح الإبداعية لأجيالها المختلفة، فإن الثقافة التقليدية تنقل خاصية التقليد والمحاكاة إلى أفرادها... والذي ينشأ من هذه المعادلة هو احتكار الإبداع من طرف واحد، وغيابه من بقية الأطراف الأخرى. إن أغلب الثقافات العالمية غير الأوروبية اليوم في طريقها إلى تجاوز الهوس ب «التقليد»، حيث بدأت تلتفت إلى نفسها وتستعيد الثقة في أفرادها، فلا تعود تحاكي وتقلد كل ما يصدر عن الغرب بشكل مرض ومزعج، ومن المؤكد أن هذه العودة الواعية إلى الذات (دون إنغلاق وتعصب أو ارتماء في أحضان الماضي وعبادة السلف)سيتمخض عنها نشوء ثقافة إبداعية يصبح فيها ظهور المبدعين حدثا مألوفا وطبيعيا، وستبدأ في تصدير الإبداع بعدما كانت تستورده. أما الثقافة العربية فلا تزال تعاني من هذا الداء، هذا المرض الفتاك الذي اسمه التقليد. ويمكن بتعبير آخر أن نقول إن الثقافة العربية المعاصرة هي نتيجة نوعين متضادين من التقليد: تقليد السلف، وتقليد الغرب. إنها هذه الخلطة الغريبة المشوشة التي انتجت أفرادا ومؤسسات هشة وضعيفة. كل شيء مقلد، حتى الجانب النخبوي من ثقافتنا: الأدب والشعر والعلم والفكر. ثمة سباق محموم على اقتباس وتقليد كل شيء يصدر عن الغرب. لقد وصل بنا الحال إلى درجة المرض,، فلم يعد الاقتباس مقتصرا على الجوانب الإبداعية هناك، بل على كل شيء، الغث منه والسمين! إنني لا ألقي باللائمة على الغرب، ولا على العرب. أجل، ليس هناك أحد ما بشخصه يتحمل مسؤولية احتكار الغرب للإبداع وغيابه عندنا. إنها حالة تاريخية معينة بدأت منذ قرنين من الزمان، وهي مثل أية سمة ثقافية أخرى تستمر في الحياة لوقت معلوم قد يطول وقد يقصر، ولكن لا أحد بيده إيقافها أو إبقاؤها كيفما يشاء، فالبناء الاجتماعي ليس خاضعا للرغبات الفردية. إنني أحاول هنا أن ألفت النظر إلى أن الوعي بها؛ أي بهذه الحالة التاريخية، هو أحد الأسباب التي قد تؤدي إلى التعجيل في اختفائها. لقد قام مفكرون عرب كثيرون بهذه الخطوة، وأنا معهم مستمر في مواصلة التنبيه إلى أن كل الأمم لا تخلو من طاقات إبداعية هائلة. بل إن العالم ككل قد خسر الكثير لغياب هذه الطاقات الإبداعية. فلنتصور أن الهند والصين وأفريقيا والترك والعرب والفرس وكل الأمم ساهمت في الإبداع بنفس القدر الذي ساهم به الأوروبيون منذ العصور الحديثة ( أي قبل 300 سنة من الآن)؟! كان يمكن لنا نحن البشر لو أن ذلك حدث، أن نتجاوز كثيرا من المآسي والكوارث التي مر بها البشر؛ كالحروب العالمية وأسلحة الدمار الشامل والأمراض الفتاكة وغيرها. وقد لا أجد غضاضة في أن أقول إن احتكار الإبداع هو المتسبب الأول في كثير من هذه الفظاعات التاريخية! كأسلحة الدمار الشامل مثلا. إن الإبداع والاختراع ليس هو سبب كثير من الكوارث، كما يردد البعض، بل غياب الإبداع في ثقافات متعددة، واحتكاره من أطراف معينة هو السبب الجوهري. فالإبداع بما هو إبداع لا يتعلق بالشر والفساد والدمار. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة