كنت تبحث عن ماضيك في ردهات منزلكم المهجور في قرية منسية في الشمال، كان نواح الريح ووشوشة السقف المهترئ وحدهما يتسيدان المكان، فجأة يداهمك عصفور باهت اللون، يمرق من بين الشقوق ويطير فوق شجرة النيم العتيقة، ويعود مرة أخرى في حركات هستيرية ويحط على الحيطان المتصدعة، ولأنك كنت وحيدا تسامر رهبة المكان وتستدعي تفاصيل العمر الهارب أصبح ذلك الطائر، بمثابة مسرحية متباينة الفصول، وكنت المتفرج الوحيد على ذلك العرض العفوي لتك المسرحية، عرض كان لا يخلو من تراجيديا تستنهض البكاء من دفتر الوجدان، كان العصفور الحزين يطير بين أشجار النيم، ويقف فوق طلمبة الماء، ويصدر صوصوة حزينة مثل بكاء الثكالى في العشيات الماحقة، كان الطير يتأملني بصورة جعلت جسمي يقشعر من الخوف، وكدت أطلق ساقي للريح من ذلك الموقف الرهيب، ولكن قلت في نفسي (يا زول تخاف من طيرة)، في تلك اللحظات المشحونة بالصمت تصورت أن العصفور القلق ربما يكون بينه وأهل الدار الذين هجروها قبل سنوات طويلة مساحة من الألفة وربما ظن أن النبض سيعود إلى تلك المساحات الخاوية، فبدأ يصدر تلك الطقوس الغريبة للترحيب بصاحبكم على اعتبار أنه كان واحد من سكان تلك الدار في السنين الخوالي، كان ذلك قبل أن تسرق تفاصيل عمره سنين الغربة (مرة ومؤلمة)، حسنا قبل أن يتهمني أحدكم بالهرطقة، ومنح ذلك العصفور ما لا يستحقه يحضرني هنا أن مجموعة من علماء الطيور أكدوا خلال بحث لهم أن الطيور ذكية وبإمكانها تذكر الوجوه، لأن أمخاخها غير بدائية، وإذا كان الأمر كذلك علينا ضرب تعظيم سلام للطيور بدءا من طير البقر وأم قيردون الحاجة والفوجه (ود ابرق)، إلى آخر القائمة، ما علينا بعودة إلى أمخاخ الطيور وكيف أنها تتذكر الوجوه فقد أشار قائد الدراسة الطيورية ايرك بارفيس من جامعة كارولينا الشمالية إلى أن مخ الطائر يشبه تماما العقل البشري، حكاية ذكاء الطيور تذكرني، بهوجة الحرب التي بدأت في السودان، وكيف أن الذكاء السوداني، السوداني الجميل، جعلنا بعد الهمود والخمود نتذكر فجأة تلك الحرب اللعينة فعاونا إقامة علاقة متينة معها، وإن شاء الله نقطع جلابيب الحرب بعرق العافية، المهم الله أعلم متى تنتهي تلك العلاقة مع الحرب، وهل سيسعفنا ذكاؤنا بوضع استراتيجية لتجاوزها، أم سنكون من أبلد خلق الله ونقيم الأرض ولا نقعدها؟، خصوصا أن بعض المتوترين (الله يخرب) بيوت أهاليهم تذكروا فجأة هوجة بداية التسعينيات فعمدوا إلى رفع أصواتهم المقيتة، لجعلها بمثابة (حرب استشهاد) وشهداء وإلى ما ذلك من خطاب استقصائي لا يشبه سماحتنا التي أصبحت في الحضيض.