«فعلتها أمانة جدة مرة أخرى» قالها صديق لي عبر الهاتف حانقا. قلت ماذا حدث؟ قال ها هي الأمانة تهجم فجأة على منطقتي المفضلة التي أذهب للتنزه فيها يوميا، وإذا بهذا السور الطويل القبيح من صفائح الزنك يمتد على كيلو مترات من طريق الكورنيش حاجبا البحر عن الجانب الشرقي ومنذرا بأن متنفسي الأساسي سينقلب «فوق تحت» بأعمال الردم والبناء. أضاف: هكذا تخنقنا الأمانة مرة بعد أخرى وهكذا تهدر المال والوقت فهي، كما ترى، تأتي إلى مكان جميل متعوب عليه من الكورنيش وقد تم تخطيطه سابقا من قبل الأمانة نفسها وهو مكان يعشقه الناس وقد أصبح من معالم المدينة فتقلبه رأسا على عقب بدلا من أن تقوم بإصلاح أماكن أخرى وإضافة متنزهات جديدة أو الاهتمام بمهامها الأساسية الأخرى، كالنظافة، وكأنه لم يكفها ما فعلته بشاطئ النورس الذي كان من أجمل شواطئ العالم فبنت لسانا يفصله عن البحر المفتوح وغطت الشاطئ الرملي الرحب بمبان «خدمية» بشعة ومطاعم كما سمحت بإنشاء فندق فوق اللسان يحجب منظر البحر تماما، أما خندق الماء الراكد الذي نتج بين الفندق والشاطئ الأصلي فسوف يهولك ما آل إليه من تلوث وقذارة، وهكذا تبقى الأمور في جدة «مكانك سر» بل غالبا ما ترجع إلى الوراء بسبب تخبط الأمانة، وللأسف نسي الناس ما كان عليه جمال شاطئ النورس الأصلي قبل أن يطاله التخريب. استمر الصديق منفعلا قبل أن أتمكن من مقاطعته: أليست هذه هي الأمانة التي ردمت بحيرات الكورنيش الجميلة التي صممتها شركة عالمية مختصة وهي التي سمحت ببناء كل هذه المباني التي حجبت البحر على طول الشاطئ؟ أليست هي التي ردمت مجرى السيل الشمالي الذي ما أن اكتمل ردمه حتى تجمعت المياه في مناطق منه مما جعل من الضروري إعادة الحفر لتمديد أنابيب تصريف إضافية؟ اتصلت بأحد المختصين بالأمانة الذي لم يعرف شيئا عن الموضوع فأحالني إلى مختص آخر. وأنقذني من البحث عن الأخير مقابلة صحيفة المدينة مع معالي الأمين الدكتور هاني أبو راس المنشورة يوم السبت الماضي (25/6/1432ه) التي أسهب فيها في الحديث عن مشروع تطوير هذه المنطقة من الواجهة البحرية والتي صاحبتها بعض الرسوم التي تدل على أن منطقة التطوير سوف تشمل شاطئ «النورس الحزين». كدت أطير من الفرح لما تضمنه كلام الأمين من وعود بأشياء أصبحت بالنسبة لسكان جدة كأحلام بعيدة المنال: شواطئ رملية صالحة للسباحة، ملاه مائية، مسطحات خضراء، 8 ملاعب للأطفال، مسارات للمشي بطول 13 كم، مواقف ل 5 آلاف سيارة. أكثر من ذلك، نفق للخدمات، شبكة نقل بالترام، تاكسي بحري، تلفريك. وفوق ذلك كله وعد قاطع من الأمين بإغلاق جميع مصبات الصرف في الكورنيش. قفزت إلى الهاتف لأبشر صديقي قبل أن يقتله الاكتئاب، ولكن تملكتني رعشة خفية خشية أن أكون أمام سيل من «الأحلام الوردية» مثل التي سمعناها من أمين سابق قبل أن تجتاحها سيول جدة فيما اجتاحت. ذهبت إلى الكورنيش لتطبيق كلام الأمين والرسوم المرافقة للمشروع على أرض الواقع. ما أن سرت بمحاذاة سور الزنك حتى تطايرت في رأسي هواجس مخيفة. قالت أولاها مشيرة إلى السور «بداية القصيدة كفر» فأي مشروع يحترم شعور المتنزهين لا يقوم بإغلاق منطقة بهذا الحجم دفعة واحدة، بل من الأحرى أن يقوم بتجزئتها على مراحل بسيطة. ما أن اتجهت من مركز خفر السواحل جنوبا حتى هالني عمق الماء في تلك المنطقة وجمال الصخور التي بها. هذه المنطقة الضيقة يصعب عمل أي شيء فيها إلا بردم مساحات كبيرة من البحر وهو أمر مناف لأبسط أساسيات البيئة. انتابتني رعشة قوية وأنا أتصور جرافات ضخمة تلقي بأطنان الرمال والصخور فوق هذا الساحل الذي قاوم جماله الكثير من التعديات السابقة رغم ما لحق بشعابه المرجانية وكائناته التي تغطيها زرقة مائه من أضرار بالغة. فكرت أن أتصل لأسأل معالي الصديق الكريم المهندس هاني أبو راس : هل استعنتم بأي جهة مختصة لدراسة الآثار البيئية للمشروع؟ صحوت لنفسي قائلا، ماذا يجدي الكلام الآن والمشروع قد بدأ، والبيئيون في سباتهم العميق. وماذا فعل الكلام للنورس؟ على كل حال لن أبخل على معالي الأخ هاني بالنصائح المجانية التالية فأقول له: إذا كان هذا المشروع موروثا من الإدارة التي حملت راية «الردم» فأنصحك بالتريث فيه أو حتى تعديله لتفادي أي ردميات للبحر لأن هذا الردم هو بدون أدنى شك جريمة بيئية من الدرجة الأولى وسوف تصبح أنت من يتحمل وزرها. هناك الكثير من التحسينات التي يحتاجها بشدة شاطئ النورس الواقع شمال مركز خفر السواحل أما المنطقة الواقعة جنوب المركز فلا تحتاج لشيء غير إكمال مشروع حديقة الأسماك المتعثر. أفضل ما يمكن أن يحققه مشروع الواجهة البحرية هو إزالة المباني والمطاعم والأكشاك واللوحات الإعلانية التي تحجب البحر، وكلما أزلت أكثر وأكثر منها فستضمن نجاح المشروع، أما إذا أزلتها كلها فستصبح بطلا قوميا في عيون الكثيرين. كيف نصدق أنك ستغلق مصبات الصرف الصحي بينما ليس شيء على لسان الأمانة أكثر من قولها إن الصرف لم يعد من مسؤوليتها بل من اختصاص وزارة وشركة المياه؟ الجلسات البسيطة المتاحة على الشاطئ الصخري الذي تتلاطم أمامه الأمواج في الجزء الجنوبي من المشروع هي كل ما يتمناه الناس ولا داعي لتخريبها. نرجو تركيز الجهد على إصلاح شاطئ النورس وأفضل ما يمكن عمله هو إعادته إلى ما كان عليه أو أقرب شيء إلى ذلك. للأسف الرسوم توضح أن الفندق والخندق باقيان على حالهما. الترام والتلفريك والتاكسي البحري ليست ضرورية على الشاطئ وشوارع جدة المختنقة أولى بالقطار. هذه الأمور تحتاج إلى محطات أي مبان تحجب البحر وتسبب الاختناق ويجب إبعادها عن الشاطئ. نفس الشيء بالنسبة لدورات المياه يجب إبعادها حتى لا تحجب رؤية البحر وتشوه المنظر. أخيرا لو كنت مكانك لدرست تصميمات ثلاثة من أجمل شواطئ العالم قبل بداية المشروع واخترت أجمل ما فيها واستشرت بعض المهندسين الذين شاركوا في إخراجها ثم عرضت النتيجة على المواطنين لأخذ مباركتهم بدلا من مفاجأتهم كما يحدث الآن. المحافظة على جمال البحر وإطلالته ونسيمه وبيئته وكائناته علم واسع ويحتاج إلى مختصين. وما فعلته الأمانة بشاطئ جدة حتى الآن يؤكد أنها تفتقر إلى أبسط أساسياته ومع ذلك تتصرف وكأنها الأشطر في العالم. رجعت إلى صديقي وقلت له: عليك أن تحملق في سور الزنك لمدة 14 18 شهرا ثم تفتح عينيك وتنظر، فإما صابت، وإما خابت. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 133 مسافة ثم الرسالة