تتكرر في كل يوم وبعد كل أذان في الإذاعة والتلفاز أدعية تطلب من الله سبحانه وتعالى السقيا من حوض نبينا محمد عليه الصلاة والسلام يوم القيامة شَربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً. وهنا تتقاطر الأسئلة حول هذا الموضوع، فأين يكون هذا الحوض؟ هل على أرض المحشر، كما نقله ابن حجر في الفتح (3503/6355)؟ أم إنه في الجنة وبعد الحساب كما جاء في صحيح مسلم (1060/5918)؟ أم أن للرسول عليه الصلاة والسلام حوضين، كما نقله الألوسي في المعاني (30/244)، حوض في المحشر وآخر في الجنة؟ ففي أي هذه الأقوال يستقر هذا الحوض؟ جاء في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام «حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك ترى فيه الآنية مثل النجوم فمن شرب منه فلا يظمأ أبداً». ففي الرواية طول هذا الحوض مسيرة شهر، وفي رواية أحمد مسيرة ثلاثة أيام، وفي رواية ثالثة مثل ما بين أيلة والجحفة، ورابعة كما بين صنعاء والمدينة، وخامسة بين عدن والبلقاء. وقد قال القاضي عِياض فيما نقله ابن حجر (3503/6355) إن هذا الحديث مروي عن عدد كبير من الصحابة فيأخذ حكم المتواتر وإن الاختلاف في المسافات للتقريب لأذهان السامعين. ورد ابن حجر هذا التعليل بقوله «.. وأما هذا الاختلاف المتباعد الذي يزيد تارة عن ثلاثين يوماً وينقص تارة أخرى عن ثلاثة أيام فلا يكون للتقريب». ونخلص من هذا الاختلاف إلى أن الحديث في حكم المضطرب الذي لا يعمل به عند أهل الحديث كما ذكره ابن تيمية في الفتاوى (7/254). ولقد جاء في صحيح مسلم (1264/7003) قوله عليه الصلاة والسلام «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء أي ترابية ليس فيها علم لأحد». فإذا كان هذا الحوض يبلغ طوله ما بين المشرق والمغرب فإن هذه الأوصاف توجب ذكر هذا الحوض في معرض ذكره عليه الصلاة والسلام لأرض المحشر بدلا من القولِ بأنها بيضاء عفراء وليس فيها علم لأحد. وهل ثمة علم للرسول عليه الصلاة والسلام على أرض المحشر أكبر من هذا الحوض، لو كان موجوداً؟ مما يوجب إيقاف العمل بهذا الحديث. والثالثة أن ما جاء في هذا الحوض من الأوصاف تجعله كأنه قطعة من نعيم الجنة، وهذا خلاف ما جاء في أرض المحشر ومعاناة الناس فيه من الهم والغم والخوف والكرب كما قال تعالى «يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئٍ يومئذ شأن يغنيه». وقول الرسل أجمعين في ذلك اليوم «نفسي نفسي!!» وقوله تعالى «وجوه يومئذ ناضره إلى ربها ناظرة* ووجوه يومئذ باسرة* تظن أن يفعل بها فاقرة». ففي ذلك اليوم العصيب تكون وجوه المؤمنين ناضرة وترجو وتنتظر من رب العالمين حسن الجزاء وليس بالمناسبة في هذه الآية أي معنى من معاني رؤية رب العالمين في الآخرة كما يحلو للبعض أن يتقول بذلك ويتشبث بهذه الآية، فإن هذا القول مردود جملة وتفصيلا بقوله تعالى «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار». وقوله تعالى لموسى عليه السلام «لن تراني»، وحرف «لن» تأتي بوضع اللغة للنفي الأبدي. وشتان بين النظر والرؤية فإن المرء ينظر إلى الشجرة مثلا ليرى ما عليها من الطيور وقد يرى أو لا يرى، فليس كل نظر تتحقق معه الرؤية. وفي قوله تعالى «ليس كمثله شيء» رد لمن احتج بما نسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من قوله «ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر»، فيما ذكره ابن حجر في الفتح (3503/6365). وحرف «كما» تأتي للتشبيه والتمثيل ورب العزة والجلال منزه عن كل ذلك. فالشاهد أن يوم الحشر تطغى عليه صفة الهم والغم والكرب، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم (91/433) «.. يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد.. وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون». فهل يتناسب هذا الحال مع وجود هذه القطعة من نعيم الجنة وهي هذا الحوض في هذا المحشر؟ ونخلص من هذا إلى أن ما ذهب إليه القرطبي من أن هذا الحوض إنما هو في أرض المحشر قول بعيد جداً وينقضه العقل والنقل، فأين إذاً يكون هذا الحوض؟ والقول الثاني الذي تبناه القاضي عياض فيه أن هذا الحوض إنما يكون في الجنة. وفي هذا القول إشكالات أكثر من القول الأول، لأن فيه تعارضا مباشرا مع حشد من الآيات، مثل قوله تعالى «ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا* عيناً فيها تسمى سلسبيلا» وقوله تعالى «ومزاجه من تسنيم* عيناً يشرب بها المقربون» فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الناس في الجنة يشربون ويستمتعون بهذه الأشربة التي خلقها الله لهم. ووجه التعارض مع حديث الحوض أن من شرب منه فلا يظمأ بعدها أبداً. ومعنى ذلك أن كل هذه العيون والأنهار التي خلقها الله لعباده في الجنة لا قيمة لها. لأن من شرب من الحوض انتهت رغبته في أي ماء أو شراب وهذا مردود بسياق الآيات ومعانيها. وثمة إشكال آخر وهو ما ذكره ابن حجر في فتح الباري (3502/6365) أن رهطاً من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام يمنعون من هذا الحوض. فيقول الرسول «يا ربي أصحابي، فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا». والسؤال الذي ينقض هذا الحديث هو من من الصحابة ارتد بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ولا صحابي واحد!! ثم لو كان موجوداً في الجنة لكان من المناسب أن يأتي ذكره ولو مرة واحدة في سياق الآيات التي تناولت وصف الأشربة والأطعمة التي خلقها الله لعباده في الجنة. فلما لم يرد ذكره علم قطعاً أنه لا وجود له في الجنة كما قال القاضي عياض، فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما ذكره الجويني في البرهان (1/166) والغزالي في المستصفى (1/368). والخلاصة أنه نظراً لتضارب الأدلة وتعارضها فالنتيجة هي إيقاف العمل بهذا الحديث لورود ما هو أقوى منه من النصوص قطعية الثبوت والدلالة وهي ما ذكر من الآيات الكريمة. أما الصراط فقد جاء في صحيح مسلم (88/405) ومثله في البخاري (527/791) قوله عليه الصلاة والسلام (ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فيمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً، وفي حافتي الصراط كلاليب مثل شوك السعدان تخطف الناس». والذي جاء في كتابه العزيز في استيفاء العباد ما يستحقونه إنما هو الفرح والبشرى وأن الملائكة تأخذهم مباشرة من المحشر إلى الجنة وتفتح لهم أبوابها وتهنئهم وترحب بهم أجمل ترحيب وتقول لهم «سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين»، فلزم والحال كذلك تقديم الآيات وإيقاف العمل بحديث الصراط والنيران والكلاليب وشوك السعدان. فاكس/6975040 [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 148 مسافة ثم الرسالة