هل أتعب الشعر النقاد، فهجروه إلى الرواية؟ وإن صح، أهي هجرة من كبار النقاد الأصيلين الذين يضفون بقراءاتهم إبداعا على إبداع، وهم قلة في ساحتنا الثقافية لكنها قلة الجودة والفرادة، فأي حظ للشعر إن غاص في بحره ناقدا، الأستاذ الكبير محمد العلي، أو الدكتور سعيد السريحي.. أم هي هجرة نقاد مبتدئين، أو محرري الصفحات الثقافية الذين يرتدون جبة النقد، وما أوسعها عليهم؟ تعبوا من غموض مراميه، تأويلاته، من سراديب منسية في حياة الإنسان لا يرتعد الشعر يتسلل إليها غصبا وطواعية، يتمشى بها إلفا، صانعا جنته وجحيمه؛ تعبوا من آفاق غيبية يستشفها الشعراء؛ رؤى تشغل الصفوة من النقاد قبل الناس، وتتوجس منها حكومات؛ يا للمتنبي حين يكشف عن تعدد معاني الشعر وتأويلاته، نهرا يجري على ديدنه: (أنام ملء جفوني عن شواردها/ ويسهر الخلق جراها ويختصم) ليس الشعر بسهل المراس حتى يسلم نفسه لمن شاء أن يمتطي صهوة قراءته، دأبه يستدعي النقد ذا الحرفة العالية، والاطلاع الواسع؛ فليس اعتيادا أن تصادف قراءة للشعر تستجلي إبداعا يوازي إبداع الشاعر، نقدا يعمد ما يفتتح الشعر من آفاق. كقراءات المعري في (عبث الوليد)، و(معجز أحمد)، أو العقاد وطه حسين في قراءاتهم للشعر العربي، هكذا لا يكون النقد ظل الشعر أو قرينه، بل سادنه، وكاشف أسراره التي قد تغيب أحيانا عن وعي الشاعر نفسه. أيهرب النقد إلى الرواية استسهالا؟ أم هو مأزق الصحف المحلية بمحرري صفحاتها الثقافية، والخلط المزعج بين مهنتهم والنقد، وجرأتهم على قراءة السرد، حتى ظن بنفسه من يغطي الخبر الثقافي أنه ناقد، فراح يكتب في نقد الرواية ما شاء له. كأن الحديث عن الروائيين والروايات مادة سهلة لملء بياض صفحاتهم؛ والأدهى، تفجؤك قراءات لا تمت للعمل بصلة إلا عنوانه، كأنه اطلع على الغلاف فقط، ثم بدأ القص واللصق؛ ألا سامح الله النت، فعلى إيجابياته الكثيرة، فإن من عيوبه أنه يورط صغار المحررين باستسهال الكتابة. ختاما، أيخاف النقد تعددية الشعر، ويستكين إلى مباشرية الرواية، والتصاقها بالواقع بلغة واضحة المعاني، وبصياغة سلسة بين ضمير المتكلم أو الغائب؛ مما أخرج قراءات كثيرة مصنعية (صحافية) على غرار المصنع الروائي. أم أن الوهج يكمن في شؤون الواقع الذي يغوص في وحل الانحطاط والتردي العربي، مما يجعل القارئ والناقد على حد سواء، يسعيان وراء من ينبش هذا الواقع، يعريه، يناقشه على أمل ما، أو عزاء وشهادة. ليس هذا الزمن، زمن الرواية فحسب، وإن علا صوتها بسبب احتفاء الصحافة بها، بل زمن الآداب والفنون جميعة، هكذا لا نبشر هنا باصطفاء شكل أدبي ونقصي الأشكال الأدبية أو الفنية الأخرى، فالتعددية ضرورة ثقافية كما هي جوهر الحياة، والإقصائية انحطاط ثقافي يشل الإبداع ويخطفه سريعا إلى الهاوية. [email protected]