كما لدى العرافات في جبل قاسيون من مقدرة على قراءة الأكف حقيقة كانت أم زائفة، وكما هو الحال لدى النور والغجر من ادعاء أو صحة في استشراف المستقبل، نحاول جاهدين نحن معشر النقاد والكتاب الصحافيين تقديم قراءة أكثر وضوحا لملامح محمد عبده .. تلك الملامح التي تخبىء تحت خدان سهل رؤيتها على وجه وأوجان، هذا «المحمد» المختلف أشياء لم تتضح لنا بعد، فمحمد عبده حكاية سوف لن تنتهي، وهكذا هم المؤثرون على حياة الناس المجايلين لهم، حيث يظل عملهم وعطاؤهم متداولا ليصبح تأريخا يكتب في جدران الكهوف وفي الواح من خشب صنعت منه أكواخ الإنسان الأول في الماضي السحيق وفي أوراق البردي، حتى تلك المشاعر التي تكتب على صفحات مياه جدول أو نهر يجلس على سيفه حبيبان أو عاشقان إلى أن حفظت هذه الإبداعات «ديجتال» في اسطوانات حديثة، وفي كل هذه المراحل كتب أيضا تأريخ المبدعين في الوجدان والأفئدة .. هؤلاء الفنانون الذين ينتسبون إلى معاشرهم محمد عبده كما لو أنه امتداد لإبراهيم وإسحاق الموصلي ودنانير وسلامة ومعبد وسايب خاسر من المدينةالمنورة وعبيد الله بن سريج وابن محرز والغريض من مكةالمكرمة وعزة الميلاء وزرياب سيد وعبد الغناء في آن «وكلنا عبيد الله». وأبو جعفر يمن البيتي الذي ينسب إليه مولد لون الدان اليماني نسبة إلى اسمه يمن إلى الشريف هاشم الذي كان أول حجازي يخرج بالفن من المحلية في الحجاز إلى العراق ومصر. ولد محمد عبده وفن محمد عبده ليكون حلقة وسيطة بين الأصالة المتجذرة في تأريخ الغناء وما هو قادم من أجيال في دنيا الغناء، ربما نقول ذلك بثقة أكثر كون هذا الوجه ذو السحنة الجنوبية أطل علينا في الحياة حاملا معه ملف الموسيقى والغناء المرتبط بعواطفنا وشؤوننا الفنية وشجوننا، كما قدم سقراط حاملا ملف العلم والحكمة الإغريقية التي غطت الكرة الأرضية حكمة وعلما أكدها الإيطالي غاليليو بمنظاره مثل معلومة كروية الأرض مخالفا رجال الكنيسة الذين كانوا يصرون على انبساطها، هكذا كان محمد عبده في إيصاله للفن الغنائي كعلم وكترويح في نفس الوقت، مجالسة محمد عبده لكبار المؤرخين والأدباء والفنانين العظام وممن يستلهم منهم تأريخ الغناء وغناء التأريخ، وشخصيا لي الكثير من «الحكاوي» مع محمد عبده كمرجع فني ومحدث وليس كفنان ومطرب متسربل بالشهرة والصوت الأخاذ وبريق الذكاء الذي صنع منه فنانا للعرب. كنت في رفقته وطارق عبد الحكيم وآخرين في زيارة إلى المكلا، حيث كنت وإياه وفريد مخلص والشيخ عبدالله بقشان نتابع «طارقنا» وهو يغني في شاطىء «خلف» تصاحبه فرقة الفنون الشعبية بأعضائها الذين بينهم تتراوح أعمار هم بين السادسة عشرة والثمانين لا تختلف أقدامهم مع أو عن الرتم والايقاع بشكل لايخلق في ملامحك إلا الدهشة، عندها سألت محمد عبده الذي أجاوره .. ما الذي أشاهده ما هذه الدقة التي تخترق أعيننا؟ وتزرع فيها التساؤل في الفن الجماعي. قال لي يومها أنت لا تعرف أهل كندة وفن أهل كندة في حضرموت .. تستطيع التعرف عليهم من خلال البحث الذي وضعه الشيخ خالد القاسمي من الإمارات. هناك دراسة لفنونهم منذ قبل مولد المصطفى عليه السلام وقصتهم مع الخليفة أبوبكر الصديق «رضي الله عنه» ومن هنا تتضح ملامح العارف والباحث في مهنته .. ومن هو غير محمد عبده؟ الملم بتفاصيل تأريخ الغناء بدرجة تلامس مستوى معرفة محمد عبد الوهاب وهو يتحدث عن فنه وتأريخ الفن ! لك أن تصدق ولك ألا تصدق.
صناعة الفن السعودي الحديث فمحمد عبده المغموس بالموسيقى ومناهلها القديمة الغابرة والحديثة المعاشة جعلتنا نقبل منه كل مايقوله باعتباره تأريخا من مصادر موثوقة فكون محمد عبده جليسا للكبار ممن صنعوا أو شاركوا في صناعة تأريخ الفن السعودي «موسيقى وغناء» منذ يفاعته تجعلنا نعتمده مرجعا للفنون وللثقافة الفنية فكلنا نعرف مجالسته لعمر كدرس ولأساتذة الكدرس في الكلمة والموسيقى لتخرج لنا الخلاصة المنتظرة والتوليفة الفنية التي تحملت «رضا وعنوة» مهمة تمثيل الأغنية السعودية خارج الخريطة، وقبل ذلك المشاركة في صناعتها، محمد عبده أو فن محمد عبده .. الدليل لعالم الموسيقى والغناء والايقاعات في أرجاء الوطن، ذلك كونه لم يلبث تقديم نفسه في عالم الأغنية الحجازية عبر الراحلين الكدرس وأحمد صادق «قالوها في الحارة، ماشي بتتهادى» وغيرها من الأعمال التي أسست لانطلاقة محمد عبده اسما كبيرا ثم جاءت توأمة محمد عبده مع أستاذه الخفاجي الذي أمسك بتلابيب هذه الموهبة المطلة على عالم الغناء ويأخذه إلى دنيا «تعال معايا .. بلادي الغالية، جب لي شاهد، ياحبيبي انستنا، أنت محبوبي، آه واهين التي عرفت بيقول المعتني، صبيا، من فتونك والدلال، لنا الله، مادرينا كل ده منك يجينا، مرني عند الغروب، أوقد النار، عيونك ردها عني، قلبي دليلي، لو كلفتني المحبة. لينطلق في مهمة أعمق تمثلت في أخذنا إلى عوالم اوسع .. إلى الأغنية النبطية والنص المغرق في نبطيته مع أستاذه في هذا المنحى دايم السيف «الأمير الشاعر خالد الفيصل «بدءا من» ياولد لا تسافر، معك التحية يانسيم الجنوب جرح العيون، دستور، البراقع، شبيه صويحبي، لا يطول غيابك، قلبي ياللي لواه من الصواديف لاوي، ياضايق الصدر، لا والذي صورك، لا تحسبني داله عنك، ياصاح، يازمان العجايب «إلى مراحل متأخرة أبدع فيها الطرفان «من بادي الوقت، مجموعة إنسان، ياغالي الأثمان، ياغايبة، ثم جاءت تجربة الأميران محمد العبد الله الفيصل وبدر بن عبد المحسن مبكرا؛ ليقدما مع ولمحمد عبده أغنيات «اللهجة البيضاء التي استطاع بها محمد عبده الخروج إلى العالم العربي لهجة بيضاء لاهي بالحجازية ولا النبطية .. حيث جاءت أغنيات محمد العبد الله» ماعندي مانع، لاتحاول، لك عين تتكلم من فينا يتظلم، شوفي ياعين الحنان «بيضاء بمفردة هي مستخدمة في الخريطة العربية من الخليج إلى المحيط، وأغنيات بدر بن عبد المحسن التي جاءت بيضاء إلى جانب أن معظمها جاء بنسيج وإطار جديد على الأغنية السعودية وهو الشعبي الحديث والمغرق بالسوريالية غير المألوف نسجها بالمفردة الشعبية حديثة كانت أم كلاسيكية «مثل .. مركب الهند في العام 1969 التي أطلقها محمد عبده يومها في حفل قاهري، الرسائل، أرفض المسافة، جمرة غضى، حسايف، حدثينا ياروابي نجد، عيونك لا توريها، كل ما أقفيت، لا تجرحيني، مرتني الدنيا، وربي طالت الغيبة» ليحقق محمد عبده في هذه التجارب رؤية الدكتور هاشم عبده هاشم والراحل عبد الله الجفري اللذين أعلنا في حوار تلفزيوني محلي جمعهما في نهاية السبعينات أن محمد عبده مشارك فاعل في مهام لحمة الوطن وجدانيا في المنحى الفني والثقافي، وكما وصفه الزميل أحمد عائل فقيهي في مقال عنه بأنه «صوت الرمال والصحراء والبحر وصوت الحنين الأول للأمكنة والأزمنة وأنه كذلك بالفعل غاص وجدانيا في الوان الموسيقى والغناء العاطفي والوطني والوصفي والخاص بمختلف اللهجات والاستخدامات للايقاعات التراثية والمعاصرة التي تمثل مختلف المناطق في مملكتنا الأشبه بقارة. كل تلك النجومية الطاغية وذلك التاريخ الحافل المتسربل بخيوط لايمكن لأي من النقاد والمؤرخين حصرها وتوثيقها وحياكتها بردة ووثيقة وغيرها من العوامل جعلت من محمد عبده «ملفا فنيا» يصعب على كثيرين تحديد ملامحه والأدهى أن هذا التأريخ الفني الكبير ولا أغمطه حقه في وجوده بقوة في الحياتين الاجتماعية والاقتصادية.. ادعاء الوصاية الادهى أن ضخامة هذا التاريخ تعامل معها البعض بعدم ذكاء إن لم أقل بغباء كبير فاتكأ كثيرون على زحمة ما به من إنجازات ليدعي وجوده في تفاصيل هذا التاريخ أو أن سيرته مرت في شوارع وأزقة وزنقات هذا المحمد الذي كون إرثه العظيم بعرقه وجهده وتفانيه وعدم الاسترخاء، وأخيرا بصحته وعمره، أقول ذلك وأعني الزج به لتمادي البعض في الحديث عن طوارئ الأحداث في حياة محمد عبده مؤخرا وادعاء الوصاية على تأريخه وفنه وحياته الاجتماعية حتى ان كثيرين ادعوا ادارة اعماله والقرب منه حتى في الازمات بل وتمريضه والمشاركة في تطبيبه، بل والتصريح بلسان «أبو عبد الرحمن» حول مستقبل علاقته بالفن وأشياء كثيرة منها ادعاء تقديم محمد عبده لأول مرة للإعلام ودنياه بعد اجتيازه محنته الصحية التي عانى منها، والتي هو في طريقه للشفاء تماما منها والحمدلله. محمد عبده الإنسان ولأن محمد عبده كتاب مفتوح أمام الجميع وفي نفس الوقت ربما مغلق أمام بعض ممن هم حوله والذين يعتقدون أنهم هم محمد عبده ظلت الكثير من الحكايا والأخبار تدور حول محمد عبده في حضوره والغياب .. لذا كانت فترة مرضه العصيبة الأخيرة التي غادر بعدها المستشفى الباريسي مساء أمس الأول مرتعا للأخذ والرد والحديث باسم محمد عبده، بل والتصريح عن الحالة الصحية له. فيما ظل محمد عبده هو محمد عبده متعه الله بالصحة والعافية ... الإنسان الجميل في كل شيء المحب لفنه وللناس ولابنائه وإخوته وأهله والمتذكر دوما سبب الخير عليه وعلى مشواره مع الحياة والفن .. والدته التي قدم لها كل وقته واهتمامه ورعايته في أوقاتها العصيبة رحمها الله في محاولة لرد جميلها ورعايتها وتربيتها له طفلا صغيرا وإخوته وإعطائهم عمرها وأقصى ما يمكن أن تقدمه أم لفلذات كبدها، وكنا نحن القريبين من محمد عبده نرى إلى أي مدى كان محمد عبده موفقا على المستوى الجماهيري في مشواره مع الفن طيلة سنين مرض والدته ومرافقته لها فرغم مرافقته لها وقضاء كل وقته إلى جانبها بين مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض أيامها إلا أن الأعمال أكثر من الجيدة تأتيه وهو منشغلا بأمه مثل «من بادي الوقت» من الحانه وكلمات الأمير خالد الفيصل، «ليلة خميس» للأمير خالد بن يزيد وعمر كدرس، وتجربته مع الدكتور عبد الرب إدريس التي انطلقت بمحتاج لها وكلك نظر لبدر بورسلي، جيتك حبيبي ليوسف ناصر، ابعتذر للأمير بدر بن عبد المحسن وكلها أعمال بمثابة الأعمال المحورية والمحطات في حياة محمد عبده الفنية. كل ذاك في الوقت الذي لم يكن محمد عبده متفرغا لفنه، كانت تلك الفترة من 1983 إلى 1986. من يعرف محمد عبده؟ مصيبة محمد عبده أن كثيرين ممن هم حوله ومقربين جدا وأولئك الملتصقون عنوة لم يتعرفوا بعد على محمد عبده أنسانا وفنانا وتأريخا فاعلا في هذه الحياة وأنه غدا بفنه منتجا ثريا لبلادنا بما يقوم به من أدوار في الوقت الذي يراه البعض أصغر من ذلك بكثير بينما هو اسم فاعل مرفوع ومنصوب ومجرور بالحب والفن والإعلام والاقتصاد والمشاركة المجتمعية وأن بعض أغنياته واستاذه طلال مداح كانت باعتبار مراسيل ورسائل محبة ووشائج ليس لها ثمن شاركت بوضوح في تكوين حياتنا العاطفية وما يعتمل فيها من أفراح وأتراح، ولورود طلال مداح في القراءة أسباب عديدة أهمها مشاركته لتلميذه محمد عبده في الساحة الغنائية فاسم أحدهما يفرض نفسه فرضا في ذاكرة وتاريخ وحياة الآخر رغم أسبقية طلال في الدلوف إلى الساحة الفنية بنحو سنوات عشر أو أقل قليلا. محمد عبده، ذاك المميز في انهاء وإنجاز المكتنزات في دواخله من هوايات وأعمال وأنشطة فنية وتجارية هو أهل لها. ثم إن هناك شيئا أخيرا متبقيا يتلخص في أن كثيرين ممن هم قريبون منه أو بعيدون أو مدعون لم ولن يستطيعوا معرفة الإنسان والشخص في دواخل محمد عبده. أخيرا للزملاء الإعلاميين محمد عبده لديه «مكتب» في جدة يدير انشطته إلى جانب إدارته المباشرة من قبل نفسه لانشطته الفنية والتجارية ولديه مفوضون يقومون بما يتطلبه العمل الإعلامي لنشاطاته المتعددة ففي جدة .. إدريس وايهاب الشماع وفي بيروت شربل ضومط وفي القاهرة عبد السلام عباس وابناه محمد وأشرف وعلى مدار الساعة مرافقا له بصورة مستمرة والذي يدير كثيرا من أنشطته في الحل والترحال الإيقاعي البحريني ياسر مال الله الذي كان أول من نقل إلينا خبر مغادرة محمد عبده المستشفى إلى الفندق الذي يقيم فيه أبناؤه في عاصمة النور باريس؛ ليبدأ مرحلة النقاهة البارحة الأولى.