أسعدتني الظروف الأسبوع المنصرم للمشاركة في برنامج بقناة «الآن» إثر دعوة حوار كريمة حول قضية «التطوع»، وقد كانت سانحة طيبة لأن يستضيف البرنامج وجها نسويا سعوديا مشرقا يعكس للعالم مدى الوعي المتطور والرقي الحضاري الرفيع الذي استطاعت المرأة السعودية أن تصل إليه بمجاهداتها في كل المجالات ، مخرسة بإنجازاتها الألسن التي تحاول أن تصورها قعيدة كسول سطحية الاهتمامات ، وقد كانت عنوان المرأة السعودية في الحلقة تلك الليلة (مها) الفتاة السعودية التي برزت في أشرف مجالات الإنساني وسطح نجمها فيه إبان كارثة السيول بجدة العام الماضي ، وهو مجال التطوع . والتطوع كثقافة في مجتمعات شبه الجزيرة العربية، قديم ومترسخ بعمق، وقد أخذ شكل العرف الاجتماعي المحمود الذي يستند على تقاليد عربية راسخة، لذا فهو يضرب جذوره بعمق، متجليا ومتبلورا في قيم اجتماعية ومثل عليا، ولعل التطوع كممارسة عفوية، وكقيمة اجتماعية ضرورية لحياة مجتمعاتنا منذ القدم، قد فرضته ظروف الحياة في المساحات الصحراوية الممتدة التي تتخللها الواحات المتناثرة، في بحر رملي يسد الآفاق الأربع، ففي بيئة طبيعية شحيحة مثل هذه لا يعتمد الإنسان إلا على الإنسان، فالطبيعة فيها لا تمد يد العون، وربما كان هذا هو السبب وراء قوة الروابط القبلية فيها. وهذه الروابط الاجتماعية والقبلية التي نلعنها اليوم، كانت هي طوق النجاة في ظروف الحياة القاسية التي كان على أسلافنا التكيف معها، حتى جاء الإسلام ليرتفع بهذه القيمة الاجتماعية إلى آفاق أوسع وأرحب لينسخ الإطار القبلي ويحل محله إطار الأخوة الإسلامية، ثم إطار الرابطة الإنسانية، ويصبح الناس شركاء في السراء والضراء. إذن فنحن أمام قيمة اجتماعية راسخة الجذور. فما الذي ينقصنا؟. هذا هو السؤال الذي كنت أعد نفسي للحديث عنه وأنا أشد رحالي إلى دبي للمشاركة في البرنامج، إلا أن خطة إعداد البرنامج التي كانت تعتمد على إلقاء الضوء بشكل رئيسي على تجربة (مها) التي استطاعت المساهمة في إنقاذ أكثر من ألف شخص في كارثة سيول جدة، تستحق أن تفرد لها حلقات بالفعل، الأمر الذي حال دون التعمق في بحث الإجابة على السؤال الاستراتيجي أعلاه، إلا أن الموضوع فيما أرى أكبر وأهم وأخطر مما قد يبدو، وذلك نظرا لأهمية الدور الحيوي والمتنامي الذي أخذ يلعبه التطوع، بعد مأسسته وتوسعه خارج نطاق العمليات الإنقاذية. وما أراه أننا في حاجة ماسة قبل كل شيء إلى جهد توعوي كبير لمواكبة التطور الذي حدث في التطوع كمفهوم وكممارسة، حيث إننا لا زلنا نخلط بين مختلف هذه الأعمال والمبادرات الإنسانية، فنخلط بين الأعمال الخيرية وخدمة المجتمع، وبينهما وبين المسؤولية الاجتماعية للشركات، وبين أولئك جميعا وبين التطوع ولا تنسى «المطاوعة» أو التطوع الديني في غمرة سيولة المصطلح هذه، والذي من وجهة نظرنا، أي المصطلح، يحتاج إلى ضبط مفاهيمي. وبالعودة إلى سؤالنا: ما الذي ينقصنا لنرتفع بالتطوع من حالة الفعل الانفعالي العفوي غير المنظم، إلى مستوى الفعل الواعي المؤسس والمنظم وفق أسس علمية وعملية تجعله واحدة من أفعل أدوات المجتمع لتلبية احتياجاته عند الأزمات والملمات والحد من آثارها السلبية؟ ما الذي ينقصه ليصير من أقوى عوامل التكافل الاجتماعي التي تساهم مساهمة قوية ومؤثرة في تلاحم المجمع كأفراد ومجموعات برباط من الحب والتناغم والمؤازرة؟.هذا ما سنتناوله بإذن الله حينما نتحدث عن ثقافة التطوع ومأسسته لاحقا. أكاديمي وكاتب سعودي * www.binsabaan.com للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 215 مسافة ثم الرسالة