يشعر المواطن العربي بتمزق مبدئي وعاطفي عميق حيال الوضع الليبي، فمن جهة يعتصره الألم على القمع الحربي للمواطنين الذي مارسه النظام، ومن جهة أخرى لا زال جرح التدخل العسكري في العراق غضا، أما لماذا تدخل الغرب عسكريا لصالح الثوار؟ فالسبب يكمن في منظور نفسي متجذر في الثقافة السياسية الغربية يقول بأن هناك نوعين من الأنظمة السياسية تبعا لنوعية شخصية رأس السلطة؛ فهناك نظام مستقر يتزعمه شخص تشخص قراراته بأنها مستقرة ويمكن التنبؤ بها، وهناك النوع الآخر من الأنظمة التي يترأسها شخص يتصرف وفق مزاجية انفعالاته وليس وفق أصول مستقرة، وصدام حسين ومعمر القذافي يمثلان هذه الشخصية التي تصنفها السياسة الغربية بالخطرة لأنه لا يمكن التنبؤ بردات أفعالها المتطرفة عادة، وعلى سبيل المثال لما قبض على هنيبعل القذافي في سويسرا 2008 لضربه خادميه قطع والده علاقات ليبيا مع سويسرا واحتجز رجال أعمال سويسريين كرهائن مقابل ولده وقطع النفط عن سويسرا وطرد الشركات السويسرية وأوقف الرحلات الجوية والتأشيرات ومنع دخول وتفريغ السفن السويسرية وسحب الودائع المالية من المصارف السويسرية وأفتى بكفر من يتعامل مع سويسرا ودعا «للجهاد» ضدها، وأحدثت دعوته دويا دوليا مستنكرا، والصوت الوحيد الذي انتقد هذا التوجه ووصفه «بالتفاهة» كان ولده سيف الإسلام الذي كان يعمل على معالجة ملفات مشكلات والده مع العالم في قضايا دعم الإرهاب والسياسات العشوائية التي ورط ليبيا فيها ونجح بذلك في رفع الحصار الاقتصادي عن ليبيا الذي فرض عليها بسبب سياسات والده، فمزاجية والده أدت لإعراض المستثمرين عن الاستثمار في ليبيا، وهنا بيت القصيد، فالغرب تأمل في سيف لتأهيل النظام الليبي، فهو نال الماجستير في الاقتصاد من النمسا والدكتوراه من كلية لندن للاقتصاد وألف كتابين في تحويل الأنظمة الاستبدادية لديمقراطية! وأنشأ مؤسسة خيرية كانت واجهة جهوده في تصفية ملفات مشكلات سياسات والده، واستجلب الاستثمارات الخارجية ووجه دخلها للبنية التحتية المفقودة في ليبيا، وفتح ليبيا لمنظمات حقوق الإنسان الدولية ليصلح أوضاع حقوق الإنسان فيها، وقام بحملة لإعادة المهجرين، وإطلاق سجناء الرأي، ومعتقلي غوانتانامو الليبيين، وبدأ برنامج لمناصحة الجماعات الإرهابية في السجون الليبية بالمراجعات الفقهية، وفي إطاره استقبل دعاة من المملكة كالشيخ العودة والقرني وعرب كالقرضاوي ونتج عنه الإفراج عن مئات المعتقلين الإسلاميين، وانتجت قناة السي.إن.إن فيلما وثائقيا عن برنامجه في مراجعات الإسلاميين وأشادت بنجاحه، بينما طريقة والده كانت الإعدامات الجماعية كما في مجزرة سجن أبو سليم التي قتل فيها 1200 معتقل من الإسلاميين، وقدم سيف للغرب بمؤهلاته وحداثته وشخصيته الكارزماتية صورة شخص يمكنهم الثقة به، وكانت له صداقات في بريطانيا وصلت لمستوى رؤساء الوزراء والعائلة المالكة وكان مدعوا لعرس الأمير وليام، وأظهرت وثائق ويكيليكس الاهتمام الأمريكي بتحليل شخصيات أولاد القذافي السبعة، وقالت إنهم على نمط والدهم عدى سيف وكانوا متخوفين من مزاحمة أخيه المعتصم له والذي رأوه نسخة أكثر قتامة عن والده، ووصل الأمر للمصادمة بين سيف من جهة وبين والده وإخوته ومن يسمون بالحرس القديم من جهة أخرى، وأمم والده وسائل الإعلام التابعة لسيف لانتقادها الأوضاع، وفي تصريحاته انتقد سيف نظام ونظرية والده فيما يسميه بالحكم الشعبي ووصفه بالفشل وأنه أدى لتخلف البلد ولتكون ما أسماه «بالمافيا الليبية» وطالب ببناء مؤسسات للدولة وبالانتخابات وأعلن رفضه لتوريثه الحكم، وهذا أكسبه شعبية واسعة في ليبيا، لكنه شعر بالإحباط من عرقلة مساعيه فأعلن اعتزال الشأن العام في 2008 وانتقاله للعمل في بريطانيا، حتى جاء أول خطاب ألقاه ضد الثورة وهدد بأن أنهار الدم ستجري في شوارع ليبيا، فشعر الغرب أن أملهم الأخير لتأهيل النظام الليبي خاب في سيف، ووجد الغرب نفسه أمام خيار الاصطفاف لجانب النظام وقمعه لأجل المصالح النفطية والاستثمارات، أو الاصطفاف لجانب الثوار والمغامرة بمعاقبة القذافي لهم بالنفط والإرهاب كما هددهم، فوجد الغرب أن الخيار الذي يحفظ مصالحه في ظل سيادة التيار الشعبي في العالم العربي هو بالاصطفاف لجانب الثوار وعدم ترك مجال لانتصار النظام عليهم لأن الغرب سيدفع الثمن.. واستقال طاقم المستشارين الغربيين في مؤسسة سيف الخيرية ومنهم حائز على جائزة نوبل، وعلق أستاذه «د.ديفيد هلد» بأن التحول الذي طرأ عليه كان «مأساة شكسبيرية» فالثورة وضعته أمام خيار بين مبادئه العليا في حقوق الإنسان والديمقراطية وبين الولاء لوالده فاختار الأخير، وشبه «د.بنجامين باربر» مستشار أمريكي لسيف وأستاذ جامعي عمل في عضوية مؤسسته الخيرية، الانقلاب الذي حصل في شخصيته بما حصل في فيلم «العراب» لشخصية الممثل «باتشينو» ابن زعيم المافيا الذي اختار طريق الاستقامة وخدمة المجتمع، ولما تعرض والده للتهديد انقلب وصار العراب الأخطر، وقال إنه دائما رأى في سيف صراعا بين ثلاثة تجاذبات؛ حياة الترف الفاسدة كالتي لأقرانه في أوروبا، وشخصيته كمصلح حقيقي يعتمد الفكر المنهجي، والولاء لوالده. وحاول سيف تبرير نفسه بنظرية أن الثوار هم فلول جماعات إرهابية وعصابات إجرامية ورفض رؤية حقيقة الثورة وحقيقة أن المشاركين فيها يتملكهم ذات الإحباط الذي شعر هو به من تكلس نظام والده واستعصائه على أي مسعى إصلاحي، وناقض نفسه لما رد على السؤال حول مشروعه الإصلاحي: بأنه لو تحقق لما وصلوا لهذا الوضع. وإن كان هو كتعبير عن إحباطه ثار على والده ورفض المنصب الذي أراده والده أن يتقلده واعتزل وسافر للخارج، فالشعب ماذا يفعل ليعبر عن ذات الموقف؟ ولعل أبلغ قول بهذا الاتجاه هو الرسالة التي نشرها «د.محمد الهوني مستشار سيف الإسلام الشرق الأوسط 12/3/2011» الموجهة لسيف وأعلن فيها ككثيرين من أصدقاء سيف انضمامه للثورة: «كنت إلى جانبك أكثر من عشر سنوات.. لأنك كنت نظيف اليد من دماء الليبيين وأموالهم وأعراضهم، كنت حالما بالازدهار وحقوق الإنسان والحرية، كنت تقاتل كل يوم من أجل رفع المظالم عن الناس، وإطلاق مساجين الرأي، وأطلقت مئات منهم. وأنا خير من يعلم بما كنت تعانيه من صلف النظام وغطرسته، وأراجيف الأجهزة الأمنية وتصلبها، وكنت تتألم وأتألم معك، وفي لحظة رهيبة، جاء الخطاب..الذي هددت فيه الشعب الليبي..اخترت الباطل بعد جولات لك في نصرة الحق، وفوجئت كما فوجئ كل من يعرفك في الداخل والخارج، وكنا في ذهول من هذه الصدمة العنيفة، لا نعرف من نصدق، سيف الأمس أم سيف اليوم؟.. ابتلعتك دوامة العصبية.. هؤلاء الشباب الذين يقتلون.. ليس لهم ذنب سوى أنهم طالبوا بما كنت تطالب به أنت بنفسك، وعندما هزمت وهزمنا معك في تلك المعركة، هب الشباب ليحققوا أحلامهم». [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 217 مسافة ثم الرسالة