فجأة وجدت نفسي أسير في أحد الشوارع الكبيرة في العاصمة الرياض تحيط بي الأشجار الجميلة من كل جانب، وعلى مسافات متوازية تكتحل عيناي برؤية لوحات إعلانية براقة تختلف مقاساتها وألوانها وأشكالها، منها المتحرك، ومنها الذي يعتلي الجسور، ومنها الذي يقف شامخا في أعالي البنايات والمراكز التسويقية. ما أجملها من لوحات وما أسمى معانيها وأهدافها وسمو كلماتها، واحدة تدعو إلى صلة الرحم والتواصل الأسري، وأخرى تحذر من مخاطر التدخين، وثالثة تدعو إلى التبرع بالدم أو لإحدى الجمعيات الخيرية، ورابعة تعلن عن منشط ثقافي قادم، وطوال فترة سيري في هذا الشارع كانت يداي تعبثان بمؤشر المذياع يمنة ويسرة لأشنف آذاني بين كل فقرة وأخرى بإعلان عن صدور كتاب جديد، أو افتتاح مؤتمر علمي، أو ملتقى كبير يحضره علماء وباحثون من عدد من الدول. أحسست وأنا أسير في هذا الشارع بقصر المسافة وتسارع الخطى، كيف لا وأنا في لحظات سعادة متواصلة تعكس الاهتمام بالمواطن الإنسان واحتياجاته وغذاء فكره. دخلت إلى منزلي متأبطا حزمة من الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية، واستعرضت صفحاتها سريعا لأجد الإعلانات التي فيها امتداداً لما رأيت في الطريق، وسمعت في المذياع إنسانيات وثقافة وغذاء فكري وعقلي، حمدت الله ثانية على ذلك وبحركة لا إرادية حملت الريموت كنترول وتنقلت من قناة تلفزيونية لأخرى وما وجدت فيها أي إعلان يمكن أن يعكر صفو الإحساس والشعور الذي أحاط بي وأنا في سيارتي أرى الإعلانات أو أسمع عنها في المذياع، أو أشاهدها في المطبوعة، كل شيء رأيته كان محوره الاهتمام بالإنسان. رن جرس هاتفي فصحوت مذعورا وفركت عيني لاكتشف أنني كنت في حلم جميل رأيته في غفوتي، وعادت بي الذاكرة إلى الواقع الذي رأيته اليوم وأنا في طريقي لمنزلي قبل غفوتي. الشارع الذي كنت أسير فيه في وسط الرياض انتصبت على جوانبه أكثر من مائة لوحة إعلانية لم تخرج في مضمونها عن دعاية لسيارة أو مواد غذائية أو خدمات اتصالات أو بنوك تقدم قروضا للمواطن لتأتي على ما بقي من رصيده. أستثني من ذلك ثلاث لوحات تقف على استحياء تحذر اثنتان منها من السرعة، وثالثة تدعو إلى الحفاظ على الحدائق. في المذياع وفي التلفزيون وفي صفحات الصحف والمجلات التي استعرضتها لم يكن الحال بأحسن مما رأيت. يا إلهي ما هذا الجشع والحصار من التجار، وأي غسيل أدمغة نتعرض له عبر وسائل الإعلام لتحصر اهتماماتنا فيما يبيعون من ملبس، ومركب، ومأكل. لماذا لا يفرض على أصحاب الإعلانات في الطرق تحديد نسبة ولو قليلة من إعلاناتهم تخصص لمؤسسات المجتمع المدني للإعلان عن أنشطتها، أو للأنشطة والمؤتمرات العلمية والثقافية؟ لماذا لا يخصص بعض هذا الكم الهائل من الإعلان لبث رسائل توعوية للنشء لتبصيرهم بأمور حياتهم وإرشادهم إلى سبل العيش الكريم. حقا إنه حصار إعلاني تجاري يحيط بنا من كل مكان فهل نملك الفكاك منه؟ أتمنى.. [email protected]