انبرى العديد من الكتاب والمثقفين لطرح مخاوفهم وتشككاتهم تجاه ما جرى من شباب تونس ومصر، بعضهم من الكتاب الذين عادة يقدمون إضافات وإضاءات رائعة أكن لها الاحترام في أطروحاتهم وآرائهم، لكنهم من وجهة نظري أخفقوا هذه المرة في رؤية الحدث التاريخي، فتحولوا إلى «منظرين ناصحين» لأولئك الشباب . بعضهم طرح أن الفعل الذي جرى هو مجرد عاطفة جياشة لا يقبع خلفها فكر، وآخرون طرحوا أن هؤلاء الشباب يعرفون ما لا يريدون ولكنهم يفتقدون البرنامج والرؤية للمستقبل، وغيرهم فرق بين الحراك السياسي الذي جسدوه والحراك الفكري المفقود في حركتهم، وفئة أخرى خافت عليهم من العسكر (الجيش) الذي لن يتنازل عن مكتسباته وامتيازاته لمجرد رغبتهم. ورغم وجاهة مثل هكذا أطروحات في المنطق التقليدي إلا أنها كما يبدو لي، لم تع بعد أن ما جرى هو " ثورة " مكتملة الأركان تفصل بين عالمين، لكن ما يميزها ويجعل منها ثورة من نوع خاص أنها نفضت الأيدلوجية الشمولية ولفظت الرموز والقيادات الفردية والمؤسساتية «الأحزاب»، لأنها ببساطة هي من يمثل المجتمع الحقوقي والمدني الذي يجمع كل هؤلاء في آن واحد ولكن على أسس جديدة هي أن لكل منها الحق في الوجود ولكل منها الحق في التنافس على خدمة الشعب، ومن يقدم «يخدم» أكثر ينتخب أكثر. الجميع يتفق على المسببات لهذا الحراك المتمثلة في الفساد الذي أزكم الأنوف والبطالة والتهميش وفقدان الكرامة والحرية والحقوق الأساسية للإنسان المعبرة عن الحاجات الأساسية (السكن، العمل، الأمن، الغذاء، الحرية، الإنتماء.. إلخ). لكن غير المتفق عليه هو وجود فكر وتصور مستقبلي لهذا الحراك «الثورة»، من وجهة نظري المتواضعة أن الفكر في هذه الثورة هو ليس فقط موجود، بل هو الأساس الذي حرك هؤلاء الشباب وهذه الجماهير. قد لا يعرف هؤلاء الشباب أو بعض منهم، وربما أكثرهم أسماء جان جاك روسو أو فوليتر أو لوك أو هجل أو حتى لم يقرأوا الفلسفة وتطورها وقد لم يطلعوا على نظرية العقد الاجتماعي أو «المثقف العضوي» كما يطرح غرامشي أو غيرهم من المنظرين. لكنهم يعرفون تماما وعلى مستوى الواقع العملي كل ما طرحته هذه النظريات وبدون الاطلاع عليها، ببساطة لأنهم وعبر العولمة التقنية والفضائيات رأوا بأم أعينهم وعبر ما يقدم في الفضائيات والأفلام والإنترنت والفيس بوك وغيرها، نتائجها ومفعولها وسحرها. أن تندفع كل هذه الجماهير الشبابية بانتظام وتجسد التسامح على أرض الواقع المسيحي بجانب المسلم، والمتدين بجانب العلماني، والمرأة بجانب الشاب، والطفل بجانب الشيخ، والمثقف بجانب الفنان.. وكلاهما يمتزج بالعامل البسيط وبدون عنف ولا تجريح ولا فوضى، فذاك فكر مجسد، وهو أرقى من مجرد الفكر النظري الذي يقوله بعض أصحابه ولا يفعلونه في الواقع، تجنب الاصطدام مع العسكر «الجيش» هو وعي واقعي يجسد معنى السياسة كفن للممكن. الإحساس بالفردانية «بالذات» لكل واحد من هؤلاء، لم ينتظر قيادة ولا زعيما ولا حتى حزبا سياسيا ليقوده، هو وعي متقدم، لأنه وعي حقوقي وديمقراطي ومدني في آن واحد. إنه بحث عن تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فهل هناك فكر فلسفي يتعدى هذا، المساحة لا تكفي للاستطراد، ولكن دعونا نتفحص البيان الأول لأمانة ميدان التحرير الذي يضم كل الفئات، مسلمين ومسيحيين وشباب وكهول النساء والرجال ومن كل الأحزاب والفئات والطوائف والذي سلم مطالبه العشرة في اليوم الثاني 12/2/2011 بعد تنحي مبارك عن السلطة والذي سمي (البيان الأول لشباب ثورة 25 يناير) لنرى ماذا طرح ما هي مطالبه، لقد طالب بالإلغاء الفوري لحالة الطوارئ والإفراج عن كل المعتقلين وإلغاء الدستور الحالي وتعديلاته وحل مجلس الشورى والشعب والمجالس المحلية وإنشاء مجلس حكم رئاسي انتقالي من خمسة أعضاء، يضم شخصية عسكرية وأربعة رموز مدنية وتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة تهيئ لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتشكيل جمعية تأسيسية لوضع دستور ديمقراطي جديد وإطلاق حرية تكوين الأحزاب على أسس مدنية وديمقراطية وسلمية، وإطلاق حرية الإعلام وتداول المعلومات، وإطلاق حرية التنظيم النقابي وتكوين منظمات المجتمع المدني، وإلغاء كل المحاكم والأحكام العسكرية والاستثنائية بحق مدنيين. مطلب الشباب إذا واضح وصريح، ويعتمد على فكر متقد ورؤية واضحة لا تقصي أحدا من المجتمع ولا تسمح بالإقصاء من أي كان وتؤسس لمجتمع مدني ديمقراطي. فهل تعتقدون أن هؤلاء الشباب لا يعرفون ما يريدون؟!، إن قوى المصالح الداخلية والخارجية ستسعى بكل تأكيد لوأد المطالب التي طرحها الشباب، لكن الذي جرى يجعلني واثقا أن كل ما يمكن فعله من القوى المضادة الآن هو تأخير تحقيق المجتمع المدني الديمقراطي، لكنه آت لا محالة . [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 193 مسافة ثم الرسالة