لن أتحدث عن الثمانية عشر يوماً التي غيرت تاريخ مصر، ولن أتحدث عن التضحيات والشهداء من خيرة شباب مصر الذين سطروا بدمائهم تاريخ مصر الجديد. لن أتحدث عن سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير في حق الطاغين والمفسدين. لن أتحدث عن كل هذا وإنما سأتحدث عن صورة واحدة تحكي لك قصة الإنسان .. كل إنسان .. وفي هذه الحالة الخاصة قصة الإنسان المصري. احتشاد أكثر من مليون شخص في ميدان التحرير «ميدان الثورة» من جميع أطياف المجتمع وفئاته شباباً في مقتبل أعمارهم فتيانا وفتيات ونساء وشيوخا كلهم يعملون على قلب رجل واحد من أجل تنظيف وإعادة ميدان التحرير وتجميله ليعود أفضل مما كان عليه قبل 25 يناير الماضي. صورة لم ترها مصر من قبل .. صورة شعب يعامل شوارعه وساحاته وميادينه والمال العام كأنه (بيته الكبير). ومئات الشباب يرتدون زيا مكتوباً عليه «فخور بتنظيف مصر». فتيات وشباب من خيرة جامعات مصر بما فيها الجامعة الأمريكية يقومون بتنظيف الشوارع والفتيات يرددن شعاراً واحداً (ارفع رأسك أنت مصري). وقد نشرت جريدة الأهرام في عددها الثاني بعد الثورة 13 فبراير 2011م، تعليقات بعض الفتيات، حيث تقول داليا شوقي 29 سنة وهي محامية في شركة أوراسكوم إنها جاءت إلى ميدان التحرير لتشارك في الفرحة وفي العمل التطوعي وتقوم بأعمال النظافة في الميدان؛ لأن هذا واجب وطني، وأضافت هويدا عادل 25 سنة طبيبة أسنان أن ما نقوم به هو عمل وطني وعلى كل مصري أن يشارك في هذا العمل التطوعي، وأيضاً تقول بسمة محاسبة في أحد البنوك إنها فخورة بالمشاركة في هذا العمل. إنها قصة ذلك الإنسان الذي خلقه الله ونفخ فيه من روحه وكرمه (ولقد كرمنا بني آدم). ذلك الإنسان الذي خلقه الله ليعبده وحده وحرره من الذل إلا له سبحانه .. والانكسار إلا بين يديه. ذلك الإنسان الذي أودعه الله تلك النفخة الربانية والفطرة السليمة في الإنسان السوي الذي يأبى أن يستعبد الا لله رب العالمين. ذلك الإنسان الحر الذي جعله الله من دون كل الكائنات مخيرا في أعماله ومحاسبا عليها فلم يقهره حتى في عبادته سبحانه. ذلك الإنسان الذي إذا أهين وجرد وسلب من كرامته مات وإن كان يسير على وجه الأرض. ذلك الإنسان الذي إذا وفر له المناخ الصحي السليم من الحرية والكرامة اتقدت في قلبه وفؤاده أنوار الروح العلوية فتشحذ عزيمته وهمته وتنشط للعمل جوارحه. ذلك الإنسان الذي إن شعر أن أرضه التي يقف عليها هي ملك له وهو مستخلف فيها وعليها، عاملها كما يعامل أغلى ما يملك، وعندها يتحقق مفهوم المواطنة الحق على أرض الواقع. وقد كانت هذه أول دعوة تبادلها شباب مصر على ميدان حركتهم (الفيس بوك) دعوة تؤكد ببساطة ووضوح أن الثورة ما زالت مستمرة وأن القادم لن يكون أفضل إلا بهم والتي وضعت كميثاق سمي بميثاق الحرية (أتعهد أنا ................... المواطن المصري، أني سأكون على قدر المسؤولية التي دفع ثمنها شهداء ثورة 25 يناير، وأني سأحافظ على ما حققناه من حرية وكرامة في تلك الثورة الشريفة، وسوف أحافظ على كرامتي وحريتي دائما ما حييت، وكذلك حرية وكرامة المواطنين المصريين ما دام على ذلك سبيل. ومن اليوم سأعمل جاهداً على النمو بوطني، باذلا كل ما يلزم لذلك من وقت وعلم وعمل وجهد، بكل إخلاص وحب. وأنني سوف أحرص على تنمية علمي ومهاراتي الشخصية باستمرار لأواكب التطور. وأني سوف أقدم الحب والعطاء لشركائي في الوطن، مهما كان عمره وجنسه وديانته، أو مستواه الاجتماعي، لنقضي سوياً على آفات المجتمع من فقر وجهل ومرض. وأتعهد أن أحترم الرأي والرأي الآخر وأتناقش من أجل الوصول للحق والحق فقط. لن أسب ولن أتطاول على أحد وسأحرص على التحلي بالأخلاق الحميدة في معاملاتي. سأبتسم في وجه الناس ما استطعت. وسأحاول تيسير الأمور عليهم ومساعدتهم بما أملك من وقت وجهد. لن أغش ولن أدلس وسأعترف بجهلي وخطأي وأحاول إصلاحه ماستطعت. لن أسمح لأي أحد أن يبث الفرقة والفتنة بين الشعب المصري بجميع طوائفه. وسأدافع بروحي وكل ما أملك من أجل سيادة الوطن واستقراره وأن يرتقي بسواعد مواطنيه لأعلى المراتب). هذا هو ميثاق الحرية الذي يتداوله الثوار الشباب فيما بينهم بلغتهم السلسة التي يتقنونها. حقاً إنها سخرية القدر أن تسقط الجمهورية بيد الجمهور، وأن يخلع رئيس في عيد شرطته التي منها كان يستمد قوته، وأن ينظف الشعب أرضه وتحمده كل شعوب الأرض. وتمر مصر بمخاضها ليولد الجيل الجديد.. ويحيي بالموت في سبيلها معاني ماتت منذ زمن بعيد. حقاً إن هناك أشياء يمكن أن يشتريها المال، ولكن أثمن الأشياء وأقدسها لا يشترى ولا يباع وإنما يولد ويموت، فهو ليست من هذه الدنيا ولا من تراب أرضها لأنه من تلك النفحة الربانية التي كرم الله بها الإنسان. سلام لكم منا يا جيل الكرامة والعزة والإباء .. سلم الله لنا هذا الجيل الذي أحيا فينا الأمل. * طبيب استشاري، ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمركز الطبي الدولي. فاكس: 96626509659+ [email protected]