كابوس الأربعاء الأخير في جدة، لم يقبل بالتعريفات المعتادة في مثل هذه المناسبات، والدليل أن معظم التصريحات الرسمية المنشورة، لمحت بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى وجود احتمالات فساد وإهمال كبير وقديم في التعامل المالي والإداري مع مشكلة تصريف مياه الأمطار في المدينة، والاعتراف في حد ذاته جزء مهم من الحل، ويبقى أن توكل مهمة المعالجة لجهات حكومية من الخارج، أو بعبارة أوضح، الاتفاق على برنامج للتوأمة بين أمانة جدة وبلديات آسيوية قريبة لها تجارب مشابهة، حتى لا أقول أمريكا وأوروبا واتهم بالتغريب أو بالتحزب، وبحيث يكون البرنامج تحت إشراف هيئة عليا لتطوير «جدة» بالكامل، تماما كما هو الحال في العاصمة الرياض، وبشرط أن يحضر ديوان المراقبة العامة كشريك أصيل في متابعة عمل الهيئة المقترحة. على هامش ما يجري في جدة وحدها، أسجل بأن التشنج المصنوع والاستثمار في معاناة الآخرين لتحقيق أغراض شخصية أو لتصفية الحسابات، تصرف لا يستحق الاحترام ابدا، إلا إذا تم تأكيده من مصدر مستقل وغير محسوب على طرف من الأطراف، وفي هذه الأيام لا بد وأن ننتبه لتلفيقات إلكترونية وورقية وتلفزيونية، لا تحمل من الحقيقة إلا اسمها وبعض ملامحها فقط، ثم إن الحقيقة المجردة أو غير المسلحة بتأييد جماهيري لا تملك القدرة على الفعل، ولا تختلف بأي حال عن الأكاذيب، والحقيقة بالمعنى المذكور قد تشمل كل كذبة في يدها القدرة «الكاريزماتية» أو «اللوجستية» أو «الاستراتيجية» على تسويق نفسها والتأثير في شريحة عريضة من الناس، والأخلاقيون في قرون أوروبا الوسطى انحازوا إلى اعتبارها امتيازا للذات الإلهية أو لمن يمثلها، ولا اختلف معهم، ورأى فلاسفة التنوير وربما وافقهم أهل الصحافة أحيانا أنها كل ما يكرر نفسه ويمكن إثباته وله صفة العالمية، وليست هناك حقيقة تتكرر باستمرار وتثبت نفسها وتقبل التعميم العالمي، إلا المال ورغبات الجسد والذمة الواسعة، والطريف أن ما بعد الحداثين، وهم «مقلعون» في مجموعة من طروحاتهم، قالوا إن مفهوم الحقيقة لا معنى له، والقول بوجوده مؤسف ويفرض سياقا متحيزا لفهم الأشياء، والحقيقة طبقا لآخرين ومنهم فرانك دايفر (1990) مقيدة ب «نية» ناقل الخبر أو الناشر له، وما يختار وما يترك، وأنها تقبل الصدق مثلما تقبل التضليل والكذب، وفي رأيي، الحقيقة الإعلامية في الذهنية الغربية قضية خلافية، ويمكن تكذيبها أو الطعن فيها، ويتغير شكلها بتغير الزمان والمكان والمصالح. لا أريد أن أدخل في تعويمات فلسفية لا معنى لها، ولعل الفارق الواضح بين ما ينشره الإعلام المؤسسي أو الجماهيري أو المرخص، وما ينشر في منابر الإنترنت المفتوحة ومواقع الإعلام الاجتماعي عن جدة وعن غيرها، هو أن الأول يخضع لتفكير هادئ وسليم، ويقيم الأمور بطريقة مدروسة ودقيقة وعادلة نوعا ما، بينما الثاني انفعالي وعاطفي لا يحترم المخالفين، ويتمسك بالأخبار والمواقف المنسجمة مع أفكاره وقناعاته المتحاملة، والكذب فيه وارد جدا، بالذات إذا كان الناقل مجهولا، والكارثة أن الإلكترونيين وخصوصا أصحاب المقروئية والمتابعة العالية، يصابون مع الوقت بهوس يشبه جنون العظمة، ويتصورون أنهم قادة للرأي المؤثر في مجتمعاتهم، وهذا التصور غير دقيق بطبيعة الحال ولا يتجاوز مكاتبهم أو غرف نومهم، أيضا هم لا يلتزمون بضوابط أو قواعد أخلاقية تنظم أعمالهم وما ينشرون، وينقلون انطباعات ومشاهدات ضيقة ومحدودة، تقترب مما نقله مؤرخو الصوالين الخاصة في أوروبا القرن السابع عشر عن قاعات أو صالات الرقص المخملية، واعتقادهم أن ما يجري فيها يعكس اهتمامات تلك المجتمعات وما يدور فيها، وآمل أن يقرأ هؤلاء كتاب: ويبلوغ هاندبوك (2002) ل «ربيكا بلاك» رائدة التدوين الإلكتروني، فهو كتاب مرجعي مفيد يتناول موضوعات تناقش عشوائية التدوين وتجاوزاته. لا أحد ينكر أن الإعلام الغربي الجديد، سجل نجاحات مدوية ضد الصحافة والإعلام المؤسسي، وساهم في تعرية ممارسات غير مسؤولة، ومن الأمثلة، نشر ملف الرئيس جورج دبليو بوش العسكري، وأكاذيب جايسون بلير في «نيويورك تايمز» وما حدث مع القرآن الكريم في معتقل غوانتانامو، وتسريبات ويكيليكس، وقضايا أخرى مربكة في المجتمعات العربية، وأشار مات ولش في كولومبيا جورنالزم ريفيو (2003) بأن الإنترنت راقبت وانتقدت كل شيء تقريبا، بدءا من تقارير الحرب على العراق، وانتهاء بالأعمدة الصحافية واقتباساتها، وذكر كارلوس سورايا (1992) أن تحليق طائرة على ارتفاع مائة متر، فوق بيت مشهور أو صاحب بنك، يعتبر تعديا على الخصوصية، وجريمة يعاقب عليها القانون الإسباني. ولا أدري ما هو موقف هذا القانون في زمن الإنترنت، وهل أصبح للشخصيات العامة أو المشاهير خصوصىة أصلا. أخيرا، بعض من ينشط على الإنترنت، قد يوظف نفسه بدون طلب على وظيفة مراقب للإعلام ومعلق على الأحداث، وربما نشر من موقع الحدث وهو يلبس «البيجاما» على السرير، وهذه قفزة حداثية ضخمة ومهمة، و غالبا ما يروج لشعارات لا ينفذها عمليا أو ليست لديه الشجاعة الكافية لتنفيذها، وفي الولاياتالمتحدة توجد مدونات تعرف باسم «فيلتر» ومدونون «فئة الف» او «أي ليست»، والسابقة تمثل مصادر رئيسية للأخبار في نظر الأمريكيين وبعض الصحافيين الغربيين، ولكن العرب ليسوا عقلانيين أو منصفين دائما، والتعامل معهم بجدية على طول الخط جنون مطلق، وأصدق مؤشر على ما أقول الفارق الهائل في الممارسة بين الديموقراطيات العربية والديموقراطيات الغربية. binsaudb@ yahoo.com للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 107 مسافة ثم الرسالة