ذاق الأحياء مرارة الماء وزرع في قلوبهم الخوف من السحاب المحمل بالمطر، فأغرق السيارات وزار منازل الأحياء ورفعهم إلى أدوار تعصمهم من الموت، وأصبح الماء في جدة لا يفرق بين الحي والميت فزار حتى المقابر ونبش ترابها وخلع عن الأبدان سترها. لم تقف المساكن في وجه السيول التي شهدتها جدة الأربعاء ولم تكبح السدود أيضا جماح عنفوانه فزار وأخذ وخرب ولم يكن يعرف في طريقه أحدا فكان الجميع أمامه سواسية. ولم ينس المطر الأموات فقد زارهم وأغدق عليهم من مائه، وآثر أن يمكث بينهم حتى تتبخر مكوناته بفعل لهيب الشمس وأن يستقر بينهم ولسان حال الأموت يردد الماء مر من هنا، ولربما كان الماء ضيفا ثقيلا على البعض ممن كان سببا في وفاتهم إبان السيول التي شهدتها المحافظة قبل 14 شهرا. أحد حراس المقابر أفاد أن الأموات استضافوا المطر على أن يكون ضيفا خفيفا لا يثقل كواهلهم، لكنه أصر على البقاء وحضر بقوة فأخرجهم من مساكنهم، وأغرق أركان قبورهم الضيقة. ويضيف «أصحاب المساكن في نعمة، إذ تقوى عضامهم على حملهم، لكن الأموات يموتون مرتين، إذ أن المياه ترهق عضامهم وتذيقها الوجع مرتين». وفي جولة على مقابر شرق جدة حيث كان للمقابر نصيب الأسد من سكان أربعاء العام الماضي يقف بعض الأهالي مستذكرين ماحدث يقول ساعد السملي «والدي مدفون هنا جئت لأطمئن على قبره إثر الأمطار فقد أغرقته مياه العام المنصرم وخشيت أن يكون مطر الأربعاء داهمه وحفر جريان سيله قبره». وبحسب بعض المأثورات فإن إكرام الميت دفنه، لكن المطر في ظل المقابر المنشأة في الأحياء لم تمكن من تطبيق المثل الشائع إذ أن السيول تسببت في أحافير في القبور وكشفت عورات عظام الأموات، وكشفت التراب وستبقى بينهم حتى ترث ثيابهم وتبلى». ويذكر حارس مقبرة شرقي جدة أن سكان الأحياء المجاروة حضروا للاطمئنان على أمواتهم بعد أن غرقت لحودهم بالماء، متذكرين أن الماء كان يقف خلف رحيلهم. ويضيف «أسر كثيرة أبت إلا أن تكون بين غرقى العام الماضي، فآثروا أن ينزحوا الماء عن رؤوس أقربائهم، ويطمأنوا على حالهم مستذكرين ظروف الغرق السابقة». وزاد «كانت الأحاديث المتداولة بين الجموع تتقولب في الأوضاع التي رحل فيها أقرباؤهم والحزن يعلوا الوجيه، بينما الخوف من المطر يغرق القلوب». ويعيش ذوو الموتى الطازجون الوجع خائفين على مصير أقاربهم المتوفين قريبا، فالدراسات تشير إلى أن الروح حين تفارق الجسد ودفن الجسد في الثرى يلتهمه الدود خلال 130 يوما. يقول أبو طارق التي قضى ابنه قبل أسبوع ودفن في إحدى مقابر جدة، أن الماء أغرق القبور وأروى جثث الأموات، يقول «أتساءل عن حال حديثي الموت وكيف سيكون وضعهم بعد أن غرقت القبور وأنساب الماء إلى داخلها في ظل عدم وجود تصريف يخدم تلك المقابر». وزاد «المطر له وقعه على الأحياء وربما أن الأموات في حديثهم مع بعضهم لوكان ذلك حقيقة سيكون له وقعه الموجع أيضا عليهم ولربما تمنوا الحياة لتقديم شكوى ضد الأمانة التي تجاهلتهم وتسببت مشاريعها في وفاة الكثير منهم قبل عام وهاهي تعود لتعمق أوجاعهم بعدما رحلوا».