حينما يختلف اثنان من الثقافة ذاتها فإنهما يرجعان، لحسم الخلاف، إلى مبادئ تلك الثقافة بوصفها المعيار الفيصل، وقد تكون هذه الثقافة مندرجة ضمن إطار ثقافي أوسع، وعندها يرتفع المعيار إلى مرحلة أكثر تجريداً وشمولا. إلا أن المعيار الجوهري لمختلف الثقافات الإنسانية والذي يمكن الاقتناع به هو العقل؛ فلا يمكن أن أحاجج رجلا غير مسلم بالقرآن والسنة مثلا، وهو لا يقدر على محاججتي بالكتب المقدسة لديه. وهنا يلجأ الطرفان إلى معيار عام. قديماً كان أغلب الحكماء والفلاسفة، وما زالوا، يشددون على الاحتكام إلى العقل في القضايا العمومية والشؤون الدولية والمسائل الحضارية. ومن خلال هذه الدعوات ظهرت الفلسفة العقلانية كنتيجة لتاريخ طويل من الحجاج المنطقي والجدال الفلسفي الذي لم يقتصر على المسائل الفكرية بل امتد إلى الاقتصاد والسياسة والأخلاق والفن. ومع ظهور الفلسفة العقلانية ظهرت النقاشات المحتدمة والتي جعلت الفلاسفة يتشعبون إلى فرق شتى وتيارات مختلفة لا تتفق إلا على العقل كمعيار جوهري، وإن اختلفت في تحديد ماهيته وحدوده. فهناك من يرى أن العقل يجب أن يكون الحكم في كل شيء، في الفكر والفن والدين والسياسة ونحو ذلك. وهناك من يضع حدودا للعقل لا يتجاوزها. أما بعض الشكاك المتشائمين فقد ألغى مفهوم العقل كملكة عامة مشتركة بين البشر ودعا إلى نوع من النسبية المتطرفة. لن أخوض في تلك النقاشات، فقد تم استهلاكها حتى لم يبق لنا مزيد من القول سوى التكرار. إلا أن العودة إلى فكرة العقل كمعيار حاسم عند الاختلاف هي عودة حميدة، فعلى الرغم من أن الجميع يدعو إلى تحكيم العقل فيما ينشب من نزاع إلا أن الجميع لا يفعل ذلك حقاً. فالمعيار المسيطر، واقعيا، هو المنفعة والمصلحة، وهو ما أدى إلى سيطرة «التحيز» و «اللاموضوعية» على كافة النقاشات والنزاعات. وهذا ليس خطأ بشرياً عريقاً، بل هو طبيعة بشرية مألوفة؛ حتى إن التمسك بعدالة المنطق العقلي وموضوعيته أصبح أمرا مثيرا للدهشة. وهذه الطبيعة البشرية التي يصفها التحيز هي ما كشف عنه الفلاسفة الذين ارتابوا في قيمة العقل. فالقوة، مثلا، هي الفيصل. وهذا شيء مألوف لدينا والتاريخ شهيد على ذلك. ففي الجانب السياسي ظهر فيلسوف السياسة الأبرز مكيافيلي وقرر أن الواقع السياسي مختلف عن المثل والقيم العقلانية، فهو يفترض نوعا مما يسميه أهل السياسة ب(الديماغوجية) والنفاق والتلون والكذب. لم يكتشف مكيافيلي شيئا، وإنما رفع النقاب عن حقيقة الواقع السياسي، في فلورنسا آنذاك أو في كل فترات التاريخ. ومن ثم فقد أعطى هذا المفكر نصائحه إلى الأمير الإيطالي، ولم يكن الأمير في حاجة إلى مكيافيلي إذا افترضنا أنه سياسي محنك. في مجال الأخلاق ارتأى الكثيرون أن القيام بعمل الخير نابع من اتباع المصلحة الشخصية، وأن دخول العقل إلى الأخلاق يجعلها غير قابلة للتطبيق، وأشهر الفلاسفة العقلانيين الذين أرادوا تأسيس الأخلاق على العقل هو «إيمانويل كانط» الذي رأى أن العمل الأخلاقي يجب أن يخلو من أية منفعة شخصية، وإذا ما شابه شيء من مصلحة فإنه يفسد. وفي الفن أيضاً هاجم الفنانون بشدة الفلاسفة الذين أرادوا أن يجعلوا المعيار الفني لجودة العمل هو العقل ومنطقه. وأما في مجال الدين فقد ظهرت اتجاهات شتى في الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات تدعو إلى جعل العقل مقدما على النص، أي سبيلا لفهمه وتطبيقه. إذن ما فائدة العقل والحال هذا؟ لقد ذكرنا في مستهل المقال إن العقل هو المعيار الأعم، ثم أشرنا لاحقا إلى أن طبيعة البشر وسلوكهم نابع من المنفعة الخاصة وليس من العقلانية الموضوعية. للجواب أقول إن العقل البشري لا يفتأ يعمل في كل نشاط خاص أو عام، إلا أنه يختلف من مجال لآخر، فقد يكون العقل وسيلة، وقد يكون غاية، أي معيارا نهائيا وحقيقة موضوعية. والغالب على الطبيعة البشرية هو اتخاذ العقل أداة أو وسيلة لتحقيق غايات لا تنسجم معه في النهاية. فالمجرم مثلا قد يضع مخططا عبقريا يدل على فاعلية العقل إلا أنه ينتهي به إلى غايات غير عقلانية كالقتل أو السرقة. وفي المقابل قد نجد من يتخذ وسائل غير عقلانية للوصول إلى غايات عقلانية. كأن يجعل المجرم ذاته القتل وسيلة إلى تحقيق العدالة، أو كما يفعل بعض الثوريين أو الإرهابيين الذين قد يستهدفون غايات نبيلة ولكن بوسائل غير موافقة للعقل. لن يكون للعقل كوسيلة وغاية معاً سيطرة تامة. إلا أن ما لا يدرك كله لا يترك جله. ففي الإمكان أن يسود العقل في الثقافات المحلية وفي العالم أجمع وخصوصاً وأن قنوات التواصل بين البشر ذوي الثقافات المختلفة تساعد على تنحية عوامل الاختلاف وإبراز عوامل الاشتراك وأهمها العقل والعقلانية. ويمكن للعصر المعولم اليوم أن يكون أفضل فرصة لسيادة العقلانية بشكل نسبي. فالعولمة وإن كانت اليوم مغتربة عن نفسها؛ أي مرتهنة للقوى العظمى سياسيا واقتصاديا إلا أنها لحسن الحظ ليست ضد العقلانية في ماهيتها الداخلية. إنها قابلة بكل جدارة لأن تتعقلن. فالأدوات والوسائل المتاحة اليوم هي أرقى ما وصل إليه العقل البشري من اختراعات، وما عليه سوى أن يجعل المضمون أو المحتوى ملائما لتلك الأدوات. فنحن نعرف بالبداهة أن استخدام التقنية في أمور غير عقلانية هو شيء مستهجن. كأن يستهجن الواحد منا اليوم استخدام الإنترنت والفضائيات لإعادة التعصب القبلي أو لنشر التشدد الديني أو الطائفي. وهذا اعتراف ضمني من قبل البشر أن الأدوات والوسائل التكنولوجية يجب أن تستخدم في أمور عقلانية كالخير والعدالة والمعرفة وغيرها. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة