مجموعة لا بأس بها من أفلام «الساينس فيكشن» تحولت إلى حقيقة قي وقتنا الحالي. وفي رأيي، فإن تقنية الوسائط أو «الملتميديا» وتطبيقاتها على الإنترنت تقدم مثالا لا يحتاج إلى شرح، ويمكن أن اقول وبكل ثقة إنها لو عرضت على أهل العقول في القرن التاسع عشر، لما ترددوا في اعتبارها من الخوارق والخزعبلات والبدع، وربما أضيفت إلى قائمة المستحيلات الثلاثة في التراث العربي، والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فهناك نظريات علمية تتكلم عن إمكانية انتقال الإنسان عبر الزمن ومن قارة إلى قارة في ثوانٍ معدودة، والمشكلة الوحيدة أن العلم لم يصل حتى الآن إلى ما تحتاج إليه من تقنيات لتنفيذها أو طرحها للاستخدام العام، والمضحك في الموضوع انشغال الناس في العالم العربي بمناقشة مسائل سطحية وهامشية جدا، وبعضهم يقهر ذاته ومجتمعه، ويقول بأن العرق العربي كان وما زال مستهلكا لابتكارات الآخرين، وأنه لم يشارك أو يصنع حضارة علمية في يوم من الأيام، والسابق صحيح نسبيا، وقد يكون السبب فيه اللغة القمعية والملغزة في شرح العلوم وغياب الفلسفة والمنطق، ومعهما أسلوب التلقين المدرسي، وتسفيه وجهات النظر المختلفة أو الخارجة عن المألوف أو محاولة التجريح أو التشكيك في نوايا أصحابها. الحل إذن في تناول العلوم بطريقة شعبوية، وبصيغة أقرب إلى العامية والشعر الشعبي، لأن الإنسان عدو ما يجهل، والعلم في نظر شريحة واسعة ومؤثرة من المجتمع يدخل في خانة المجاهيل، وقد يقترب أحيانا في علاماته وأرقامه وعباراته من كتابات وطلاسم السحرة والمشعوذين، ويطرق باب الممنوع الاجتماعي والديني، وما قلته ليس جديدا، فقد بدأه المهتمون بالعلوم في بريطانيا القرن التاسع عشر، عندما اعتمدوا على المفردة الدارجة أو العامية في تسويق الأفكار العلمية صحافيا، وكان نشرها في عناوين غير علمية يزيد من احتمالات الإقبال عليها، ومن الشواهد، عمود أندرو ويلسون في مجلة «اليسترايتد لندن نيوز» والأخيرة صدرت لأول مرة سنة 1842، وعمود ويلسون في المجلة حمل ترويسة: «ساينس جاوتنغز»، أو بالعربية «مواجيز علمية»، وهو منهج سار عليه ويلسون وزملاؤه، والمعنى أنهم تكلموا عن إنتاجهم الأدبي في محاضرات، ونشروا المحاضرات في مقالات ومواد صحافية، ثم قدموها في مؤلفات وكتب. دخول العلم الخالص إلى صحافة القرن التاسع عشر له بعد سياسي، والدليل أن الإنجليزي هربرت جورج ويلز (1866/1946)، صاحب المهن الكثيرة ومؤلف روايات الخيال العلمي المشهور، ذكر في مجلة «نيتشر» البريطانية سنة 1894 أن الكتابة السهلة والممتعة مطلوبة للوقوف ضد تحكم الحكومات في تمويل الأبحاث، وأن وجود منافذ إضافية يقصد الصحافة والأعمال الأدبية مطلب ضروري لتعميم الثقافة وتطور العلوم. وبعض روايات ويلز عرفت طريقها إلى السينما العالمية، ومنها: «ذي تايم ماشين 1892» التي انتجت فيلما سنة 1960، و«ذي ور أوف ذي ورلدز 1898» المصورة في أعوام (1953، 2005)، وهربرت ويلز صدرت له مئات الكتب، وكتب أكثر من خمسين رواية. ثم إن الكتابة الصحافية أو الأدبية عن العلوم ساهمت في ترويض قضايا علمية صارمة ومعقدة، كالفيروسات والنشاط الإشعاعي والتفاعلات الكيميائية، ولم تعد تستهلك جهدا أو تشترط حضور خبير لفهمها، بعد أن كانت متروكة للمختصين وحدهم، بل وساعدت في اكتشاف أسباب الأمراض وليس تشخيصها فقط، ولعل الورطة تبدو فيما ذكره أستاذ الاجتماع الفرنسي برونو لاتور (1987،1999) الذي تابع مسيرة العمل العلمي من المختبر إلى المطبوعة، وكتب بعدها أن العلم يبني سلطته وشروطه الموضوعية في اللغة التي يوظفها لإيصال الرسالة إلى الجمهور، وأن المعلومات العلمية غير الثابتة تصبح مقبولة بمجرد أن يقدم المختصون أدلة تؤكدها، ولو تجاوزت الأدلة المذكورة خلاصة النتائج المعملية أو البيانات الإحصائية، وأنها لا تنظر لأي اعتراض ما لم يكن معززا بنتيجة علمية مختلفة، وكلام لاتور مرفوض عند لورين داستون (2000)، فقد قالت بأن تمرير العلوم في قالب مفهوم للمجتمع يسلط الضوء عليها ويعطيها خصوبة وحيوية، واستبعدت لورين مسألة التلفيق، وقالت بأنها استنتاجات تحتمل الخطأ، وتقبل ما يترتب عليه من سؤال ومحاسبة مدروسة ومتوازنة. من هنا، فالكتابة الجذابة والمشوقة دون تبسيط وهشاشة أو فلسفة ثقيلة فكرة أساسية في تسويق العلم والتحريض عليه، وهو تحريض جميل ومطلوب، تماما كما تفعل شخصية «شرلوك هولمز» الروائية للكاتب والطبيب الأسكتلندي السير آرثر كونان دويل، والمقصود وصف القضية العلمية وكأنها حل للغز مربك، والكاتب العلمي المحترف يستطيع الانتقال بين اللغة اليومية والعلمية، دون أن يضحي بمن يقرأ أو يتابع، ولا يستعين باللغة العلمية إلا في أضيق الحدود. مدرسة الشعبنة في الكتابات العلمية لها امتداد تاريخي طويل في بريطانيا، وأهم ما يميزها التركيز على البناء العام للنص، واقتصادها في استخدام الكلمات العلمية الغامضة، والفكرة تناولها كارل بيرسون في مؤلفه: «غرامر أوف ساينس 1892»، وتدور حول التصاعد في عرض الموضوع العلمي وبطريقة أشبه بكتابة القصة أو الرواية، والمطب الصعب أنها تعطي للكاتب حرية التحكم في المحتوى، وتوجيه مسار الكتابة إلى النتيجة التي يريدها، بالضبط مثلما يفعل القاص والروائي، وهذا النوع من الكتابات العلمية الخفيفة نشرت له «هاردويك ساينس غاسيب» المهتمة بالإشاعات العلمية، ومنافستها «نوليج»، والثانية أول من استخدم الصور العلمية وأخرجها من أدراج المختصين إلى الشارع، وكلاهما صدر شهريا وبيع بأربعة ثم ستة سنتات إنجليزية، ووظف العناوين والصور العلمية المثيرة، وخصص مساحات مفتوحة للإعلانات، والمطبوعتان انتقلتا إلى رحمة الله عامي 1902 و1917. الكتابة العلمية بنفس شعبي غير مؤدلج لم تولد بعد في الإعلام العربي، حتى نقيس نجاحها أو إخفاقها، وأخمن أن للتعليم والمجتمع والقيود المعروفة دورا كبيرا في تأخر الولادة!. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 107 مسافة ثم الرسالة