أضحى المأزق السوداني السوداني كالماء المالح، كلما ازداد الإنسان منه شربا ازداد عطشا. وبالقرع على ذات الإيقاع، يستبين ما وراء الأكمة من احتمالات الانشطار. هذه الاحتمالات أشاعت حالة ذعر لكثير من الأطراف الإقليمية والدولية، لتلتقي عند قناعة أن الجنوب ،في وضعه الحالي، لايمتلك مقومات نشأة الدولة المستقلة. وينسحب الأمر على من يتاخمون تلك الجغرافيا أن تتحول السيادية الوليدة إلى معطن صراعات تضع الملح على جرح القارة النازفة أصلا، على شاكلة الصومال، الكونغو التي كانت ديمقراطية، وماتحت الرماد في رواندا. وفق هذه الضبابية، عمد حكماء أفريقيا إلى استدراج بدائل طرحت دون الوصول إلى مساحة التسليم بالواقع يوما، فاستنبطت مخرج التخدير المؤقت بتأجيل الاستفتاء على مصير الجنوب، تمديد الفترة الانتقالية، ومستجلبات من تجارب قارية أخرى تستلهم أي تخريج تصالحي ينأى بالمشهد برمته عن الطلاق البائن وكوارثه بين شمال وجنوب السودان. ويرى بعض العالمين ببواطن الأمور أن طرفي المعادلة «ينامان ملء جفونهما» ولا يلقيان بالا للخطر المشرئب. هذا المنحى يجافي واقع الأمر، فما يتضح للجميع أن مركز الشمال معني أن لاينثلم الجسد، مستنفرا ،كما هو ماثل عيانا، منبرياته الإعلامية كافة، ومساربه السياسية التهادنية إلى الحد الذي أفقده جزئيات من استراتيجياته، وهذا ليس إطراء بقدر ماهي تقريرية واقع. في المقابل، يذهب بعض أقطاب حركة الجنوب إلى أن لا مبرر يسند تضييع الوقت في الحديث عن تجنب الانفصال، لأنه أصبح في حكم الواقع، وأن النقاش يجب أن يركز على كيفية جعل الانفصال سلميا ومرتبا وتجنب العنف والفوضى عند وقوعه. لن نشيع حالة رعب هنا لنفصح أن هناك وقائع وعوامل مستبانة تثبت أن طلاق الشمال والجنوب يكاد يسعى بيننا كفرضية متأرجحة، بل إنه متماثل قولا وفعلا. فباستدعاء منطوق اتفاقية السلام ،فالسلطة، الآن، في الجنوب تقبض برسنها الحركة الشعبية لتحرير السودان. تلك التي تضطلع بمهام رئاسة جسمها، وتعين أعضاء الحكومة هناك، كما تعين أعضاء برلمان الجنوب، برلمانات الولاياتالجنوبية العشر، وتمثل ثقل الأغلبية فيها. والأنكى من هذا وذاك، فالحركة لها أذرعها العسكرية المنفصلة التي تتولى كل المهام الأمنية. وبالنظر إلى تلك التدابير، فإن للجنوب الآن حكومته القائمة بذاتها، جيشه المستقل، ونظامه القانوني الخاص، وهيكله المالي والمصرفي ذا النسيج الذاتي. أما وقد جفت البركة وبانت ضفادعها، استفحل شعور العزة بالدولة المستقلة دون تبصر العواقب، وترسخت القناعات، ترى هل تجدي المحاولات لإنقاذ مايمكن إنقاذه، هل يؤخذ بالمقترحات القديمة الجديدة كتمديد الفترة الانتقالية، تأجيل الاستفتاء ثلاث سنوات أخرى على الأقل، وهو اقتراح ناهضته الحركة الشعبية بشدة، بذريعة أن القبول به قد يفسر من قبل الحركات الانفصالية المنافسة بأنه تراجع عن حق تقرير المصير، وبالتالي يهدد شعبيتها؟. أم ذلك المقترح المستهلك التداول حول وحدة كونفيدرالية بين شطري البلاد تكون في حقيقة الأمر تقريرا للأمر الواقع، لأن الوحدة القائمة حاليا هي أقرب إلى الكونفيدرالية منها إلى الفيدرالية؟ لن نجنح إلى أن خيار الكونفيدرالية الذي طرحه للمرة الأولى في مفاوضات أبوجا (1991م) الرئيس النيجيري إبراهيم بابانجيدا بعد أن فشلت كل جهوده لإقناع الوفد الحكومي بحل يحقق للسودان السلام والوحدة معا، إلى أنه ليس البلسم الشافي للجراح، بل إن الرد على دعوة بابانجيدا للكونفيدرالية، أتى سريعا من رئيس الوفد الحكومي المفاوض محمد الأمين خليفة الذي أفصح بالقول: «الكونفيدرالية لن تتحقق إلا عبر فوهة البندقية». لو قبل ذلك الخيار يومئذ، لما عاد الحديث عن الكونفيدرالية اليوم وكأنها المرام المستحيل بعد لفظ مزايا الفيدرالية لعقود. ولربما أصبحت الكونفيدرالية ،لو أتت، يومئذ، عن طريق التراضي لا عبر فوهة البندقية المفاتيح المثلى لمستعصيات أزمات السودان الأخرى. كانت دعوة قرنق يومذاك هي تشكيل الدولة السودانية من أربع وحدات: الجنوب، الغرب، الشمال، الشرق، والوسط ذات استقلال كامل في إدارة شؤونها. وبالطبع ذلك تحت عباءة حكومة مركزية لا تتجاوز مسؤوليتها: الدفاع، الشؤون الخارجية، والنقد والعملة. وكان يرى في هذا الطرح أنه سيعمل على حسم حالة الاستقطاب بين الشمال والجنوب، ويقدم نموذجا يمهد لأرضية خصبة لتطبيق لا مركزية الحكم. ولكن في اللحظة التي أصبح فيها تحقيق الكونفيدرالية أمرا لا يتحقق إلا عبر فوهة البندقية، لم يعد هناك مجال للدخول في تلك المماحكات *. لأولئك الذين يعلمون ولا يعلمون شيئا عن الحكيم السوداني فرح ودتكتوك، فهو صاحب مقولة: (ما ترفع إيدك من أهلك ...) *، وهو لم يفد إلى مقولته قناعة، إلا بعد أن تبصر بعمق حكمة أسلافه وتفاصيل أزماتهم، مستقرئا جوهر ما استنبطوه من تاريخهم الشفاهي والمدون. إن كان ذاك منذ أيام دولة السلطنة الزرقاء، فما بال من «يتكأكأون» الآن على جاذبية الوحدة، يتجاوزون تبصر الحقب الزمنية المتعاقبة في إحداث تغييرات لعديد من مفاهيم العلاقة بين الشمال والجنوب، التي تفاعلت كحصيلة لما تقتضيه مراحل تطور المشكل التاريخي. لم يستفت التمرحل أبناء الوطن الواحد في تجديد وتنظيم شكل العلاقة المفضلة بينهم بغية المحافظة على البوتقة السيادية والجغرافية، ثم ترسيمها وفق مصالح جمعية تؤطر علاقة ذلك المجتمع بذاته وببقية المجتمعات والشعوب. من الطبيعي أن يصبح سلفا كير ميارديت، وقد استند إلى تقية تنفيذية طوال أعوام، مفصحا دوما عن انحيازه إلى وحدة السودان. ولم تك تلك أول أو آخر مرة يصرح فيها بشأن تبني حركتة الشعبية بمبدأ الجغرافيا الواحدة. وإلا ما الذي دفعه لقلب ظهر المجن للشمال حين ردد في رابعة النهار أنه سيصوت لصالح انفصال الجنوب. ضمن هذا المعطى، فلنمحص سلوكيات الجسم السلطوي للجنوب (الحركة الشعبية)، وتقوقعها داخل شرنقتها مشيحة بوجهها ومولية إياه شطر المناكفة السياسية. ثم تعمد إلى ذر الرماد في ولايات التماس الجغرافي، لترسل وميضا ساطعا بأن الانفصال آت لاريب فيه، وما الاستفتاء إلا قفزة إجرائية لبزوغ الدولة الوليدة. فإن كانت العملية الانتخابية السابقة كرست مشاعر من غياب الثقة المستفحلة أصلا بين الشمال والجنوب، فالمستشرف الملموس يكمن في الطلاق السيادي والجغرافي، ويظل المصير الجازم، رغم أن الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير ردد دوما قناعته الراسخة نحو ما يرتضيه أبناء الجنوب، مجسدين ذلك عبر الاستفتاء. خاصة أنه أي الرئيس تبنى نهج تصالحي مرن في تعامله مع الجنوب، مؤكدا أنه يريد للبلاد أن تظل موحدة، جازما أنه في حال ما قرر الجنوبيون الانفصال، فإنه سيكون أول من يعترف باستقلال الدولة الجارة الجديدة.. وانسحب هذا الموقف على استراتيجيات الغرب الذي جنح إلى براغماتية ومرونة السياسية، لتتوصل عدد من العواصمالغربية إلى حقيقة أن الرئيس البشير أقدر من غيره على عبور مأزق الاستفتاء، خاصة بعد أن أثبت في السنوات الخمس الأخيرة نجاحا كبيرا في إدارة تملص الحركة الشعبية، واحتمال ازدواجية أدوارها بين الحكم والمعارضة، ومن ثم كبح الأمور كي لاتخرج عن السيطرة. الأمر الذي أدى إلى تخفيف الضغط الغربي على الخرطوم حتى تتمكن من استكمال الفترة الانتقالية بسلام وتهيئة الرأي العام السوداني لتقبل نتائج الاستفتاء في وقت استمرت فيه رهانات الحركات المتمردة والمعارضة السياسية على نجاح هذا الغرب في الإطاحة بالبشير، رغم أن المصالح السياسية الغربية اقتضت غير ذلك، مع بقاء الأمل في الاستفادة من السنوات الأربع المقبلة لإعادة تنظيم وتأهيل المعارضة الشمالية بما يمكنها من معاودة تصدر المشهد السياسي في الانتخابات المقبلة، وتشكيل حكومة موالية للغرب لا يكون من ضمنها حزب المؤتمر الوطني، وفق مرئياتها *. وعلى نسق مواقف القوى السياسية السودانية المتباينة حول ما يمكن أن تتمخض عنه نتيجة الاستفتاء، تتأرجح نظرة الموقف الغربي من قضية الوحدة والانفصال؛ ففي حين يرى البعض أن مصالح الغرب تقتضي بقاء السودان موحدا لاعتبارات محلية وإقليمية عديدة، تتعلق أولاها بسعي الغرب لإيجاد حكومة موالية في بلد بسعة السودان تتهدده مخاطر الانهيار، وذلك بدعم الحركة الشعبية وقوى المعارضة الشمالية للوصول إلى الحكم بعد أربع سنوات. ويتخوف ثانيها من احتمالات عدم استقرار دولتي الشمال والجنوب في حال الانفصال وما يمكن أن يفرزه ذلك من تداعيات لا تحمد عقباها، وليس في مقدور أحد السيطرة عليها، وستتعدى حدود السودان إلى جواره. وهذه نظرة قد لا يتفق معها المتعجلون لفصل جنوب السودان في الغرب، والذين يبررون مواقفهم بأن تجربة الخرطوم وجوبا السابقة غير مشجعة على الاستمرار في الشراكة بينهما. ولهذا، يعملون على دفع المواقف الأمريكية لتبني فصل الجنوب رغما عن الرغبة الداخلية في الوحدة، ورغما عن التخوف الأفريقي من انفراط عقد السودان، والتداعيات الخطيرة المترتبة على هذه الخطوة، وفي مقدمتها تهديد دول الجوار باحتمالات عدوى التفتت والانقسام. هوامش * الصادق الفقيه مبحث. * كتاب طبقات ود ضيف الله. * دار الوثائق البريطانية.