خرجت مفردة «الفساد» إلى العلن من رحم كارثة جدة، هذا ما يؤكده مراقبون، فقبل وقوع الكارثة بالكاد تجد أحدا يتحدث عن الفساد الإداري والمالي لاعتبارات عدة، لعل أهمها عدم وجود دلائل واضحة عليه، وتدثر بعض فاعليه في ثياب المسؤولين المحصنين ضد التهم والأهواء، غير أن الفساد كمصطلح يعبر عن سوء الأداء في الإدارات الحكومية والخاصة واستغلال السلطة، كشر عن أنيابه بعد الكارثة، وأصبح لازما لكل حديث يأخذ في اعتباره مصلحة إنسان هذا الوطن وتهمة تلتصق بكل طامع في خيرات الوطن وعابث بمكتسباته. وعقب كارثة جدة، أصدر خادم الحرمين الشريفين ثلاثة أوامر ملكية، سيسجلها التاريخ بماء من ذهب لتبقى خالدة في قلوب أبناء الوطن، وتعهد ملك الإنسانية بالتصدي للفساد ومحاربته والقضاء عليه، وغسل أحزان ذوي الشهداء وسكان الأحياء المنكوبة، بالتوجيه بمحاسبة كل مسؤول تهاون في أداء عمله، وكانت تلك القرارات إذنا بالحرب على الفساد الذي كان من مسببات كارثة جدة. تعود «عكاظ» من خلال الحلقة الرابعة لتقدم قراءة قانونية وشرعية للقرارات الملكية التي نادت بالحرب على الفساد عبر حوار مفصل مع مختص شرعي وقانوني، وذلك من خلال دورنا في متابعة معركة الوطن ضد الفساد، وقبل ذلك سنذكر بالأوامر السامية الثلاثة التي جاءت كردة فعل حكيمة، فالمرسوم الملكي الأول أكد حجم الكارثة وضرورة معاقبة المتسببين فيها، وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق، وتعويض أهالي الضحايا بمليون ريال عن كل شهيد. وأمر المرسوم الثاني بتشكيل لجنة لدراسة تطوير شرق الخط السريع. وتضمن المرسوم الملكي الثالث الموافقة على توصيات اللجنة التي طالبت بتنفيذ مشاريع احترازية عاجلة ومشاريع آنية، وأخرى تنفذ مستقبلا لتطوير المنطقة المنكوبة. يرى القاضي السابق في وزارة العدل والمحامي الحالي الشيخ محمد بن سعود الجذلاني أن تدخل خادم الحرمين الشريفين في كارثة جدة والقرارات التي اتخذها إزاء ذلك هي حرب شعواء على الفساد والمفسدين، في سابقة لم يكن لها مثيل في تاريخ المملكة، ويقول «من أعظم النعم التي يجب استغلالها ورعايتها والاستفادة منها بأحسن وجوه الاستفادة، أن من الله علينا بملك صالح مصلح مبغض للفساد محارب له في كل الميادين». ويؤكد أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز (أيده الله) أدرك مدى خطورة الفساد وقوة انتشاره وأثره السيئ على البلاد والأجيال القادمة، فشمر عن ساعد الجد في محاربته واستنفر كل الطاقات لهذه الغاية الشريفة، وتوجه لتحقيقها بكل صدق وعزم لا يثنيه شيء، مما يوجب على جميع المسؤولين والمواطنين استغلال هذه الفرصة التاريخية للتخلص من هذا العدو ومحاربته وتنظيف البلاد منه ومن جنوده. ويرى الجذلاني أن القرارات الصادرة بشأن كارثة جدة من لدن خادم الحرمين الشريفين، تعتبر سابقة غير معهودة للمواطنين، وتنطوي تحتها عدة جوانب، أبرزها الشجاعة على الاعتراف بالتقصير والخطأ في حال وجوده وذلك في العبارات السامية التي صدرت بها الأوامر الملكية التي تجسد اهتمام الملك وتألمه لما حدث والتأكيد على المسؤولية الكاملة للدولة عن حدوثه خاصة حين قال في أول أمر أصدره عقب الفاجعة «وإنه ليحز في النفس ويؤلمها أن هذه الفاجعة لم تأت تبعا لكارثة غير معتادة على نحو ما نتابعه ونشاهده كالأعاصير والفيضانات الخارجة وتداعياتها عن نطاق الإرادة والسيطرة... »، إلى آخر ما جاء في نص المرسوم الملكي الصادر في 14 من ذي الحجة لعام 1430ه. وفي الوقت نفسه فإن هذا الأمر بحسب الجذلاني ليس جديدا ولا غريبا في مسلك الملك الصالح، وله عدة شواهد خيرة في حوادث مماثلة، منها ما حدث في منطقة جازان، فترة تفشي مرض حمى الوادي المتصدع، «كان لخادم الحرمين الشريفين موقفه المشهود بزيارة جازان أيام انتشار الوباء، قادما مباشرة من فرنسا، وحينها صرح بوجود تقصير وإهمال حكومي طال منطقة جازان ووعد بتلافيه عبر مشاريع تنموية ومشاريع بنى تحتية وهو ما يجري الآن الوفاء به تباعا». وبين أن هذا الاعتراف من الملك بالخطأ والتقصير يعتبر أنموذجا يجب أن يقف أمامه باقي المسؤولين على استحياء وأن يقتدوا به فيتركوا عنهم المكابرة ومنهج الإنكار والنفي المستمر لأية مسؤولية أو تقصير في أدائهم لمسؤولياتهم، فها هو ملك البلاد وقائدها لا يستنكف أن يعترف بأي تقصير يراه أو مسؤولية للدولة عن خطأ من الأخطاء. أما القرارات التي صدرت والتي تضمنتها الأوامر الملكية الكريمة عقب الكارثة، فيشير الجذلاني إلى أنها تناولت عديدا من الجوانب من شأنها في حال تفعيلها والتقيد التام بها القضاء على كثير من جوانب الفساد الإداري، وذلك عبر اتجاهين رئيسين، أحدهما، محاسبة المقصرين والمتجاوزين ومن يثبت تورطهم في أية جريمة مندرجة تحت جرائم الفساد الإداري أو مخالفة الأنظمة مخالفة متعمدة ساهمت في حدوث هذه الكارثة، وهذا هو جانب الردع والزجر الذي يؤثر كثيرا في منع التجاوزات والجرائم وتكرارها في المستقبل، والاتجاه الآخر يتعلق بمراجعة الأنظمة ذات الصلة بالكارثة وتداعياتها وأسبابها وإعداد أنظمة جديدة محكمة وشاملة من شأنها ضبط كافة الممارسات والأعمال والإجراءات الخاصة بتوثيق الملكيات وتخطيط الأراضي واعتمادها ونحو ذلك. وتعود أهمية ذلك بحسب المحامي إلى وجود فراغ وخلل ملحوظ في أنظمة التوثيق المعمول بها في كتابات العدل في وزارة العدل طيلة السنوات الماضية، وهو ما أدى إلى وقوع الكثير من التجاوزات والأخطاء واستغلال هذا الفراغ من قبل بعض الموظفين والمسؤولين الفاسدين وذوي المصالح والنفوذ، لتمرير مصالحهم وأغراضهم الشخصية على حساب المصلحة العامة، وهو ما يقودنا كذلك إلى مسألة قانونية مهمة تتعلق بأنه لا يمكن تجريم أي فعل أو عمل إداري دون وجود نص نظامي يحكمه، بحيث يثبت على الموظف مخالفته لذلك النص، «وعدم وجود أنظمة تحكم بعض الإجراءات منفذ سهل للموظف يحول دون إدانته بالفساد أو المخالفة في الإجراء الذي قام به». وحول ما صدر من قرارات، يرى الجذلاني بأنها تتنوع ما بين الأمر باتخاذ إجراءات عاجلة وسريعة لما يمكن أن يعمل على أرض الواقع، مثل التوجيه بإزالة العوائق والعقوم الترابية أمام مجاري السيول في الأودية ومعالجة بحيرة الصرف الصحي ونحو ذلك، وهي إجراءات تم التقيد بها وإنجازها في الغالب ولا عذر في تأخير أي منها، وهناك إجراءات أخرى تتعلق بعمل مراجعة لبعض الأنظمة القائمة ذات الصلة أو إعداد أنظمة جديدة، مثل نظام التوثيق الذي أنيط بوزارة العدل أو نظام تملك ومنح العقارات المنوط بوزارة العدل ووزارة الشؤون البلدية والقروية، وهذا النوع من الإجراءات لا يمكن إنجازه في يوم وليلة، وإن كان المتوقع والمفترض ألا يتأخر أي مسؤول أو وزير عن المبادرة بتنفيذ ما وجه به خادم الحرمين الشريفين في هذا الخصوص، لاستشعار الجميع حجم الفاجعة واستشعارهم أيضا مدى حرص واهتمام خادم الحرمين وعزيمته في محاسبة أي مقصر أو متأخر عن تنفيذ أوامره. وفيما يخص أحقية المتضررين من هذه الكارثة بالمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق بهم، أوضح الجذلاني أن لهذا الموضوع جوانب عدة، أبرزها محاكمة المسؤولين أو الموظفين أو حتى الشركات أو المؤسسات أو الأفراد الذين يثبت بحقهم أي مخالفات أو جرائم فساد إداري كان لها تأثير مباشر في وقوع هذه الكارثة، وهذا مما كفله الأمر الملكي من خلال الإشارة للتحقيق في تلك المخالفات وإحالة المخالفين إلى جهات الاختصاص لمحاكمتهم عن جرائمهم ومخالفاتهم، وهذا فيما يخص الحق العام للدولة، فيتضمن ذلك تطييبا لنفوس ذوي الضحايا وحفظا لكرامتهم ومشاعرهم. أما مدى أحقية المتضرر في المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي أو المعنوي الذي أصابه من هذه الكارثة، فيؤكد أن ذلك مكفول بموجب القواعد العامة الشرعية والقانونية والأنظمة المعمول بها في المملكة، مع ضرورة توضيح عدة نقاط لها تأثيرها في ذلك، وهي أن الدعوى في مثل هذه الحالات تقام ضد الجهة الحكومية أو الخاصة التي ينسب إليها الخطأ أو التقصير سواء كانت وزارة أو إدارة أو شركة مقاولات، حتى وإن ثبت أن الخطأ صادر من أحد موظفيها وتم تحديد مسؤوليته المباشرة عن ذلك، فإن التعويض يطلب من تلك الجهة وهي ترجع لاحقا على المتسبب من منسوبيها وتحاسبه. ويؤكد المحامي الجذلاني أن هذه الكارثة تصعب نسبتها إلى جهة بعينها أو إلى خطأ أو مخالفة واحدة، «هي كما هو واضح وثابت نتيجة لمجموعة تراكمات من الأخطاء والمخالفات القديمة التي ساهم فيها الكثير من الجهات الحكومية والخاصة». لكنه يطالب بوضع آلية دقيقة تعالج مثل هذا الأمر وتكفل للمتضرر الرجوع إلى جهات محددة ممن تثبت مساهمتها في وقوع تلك الكارثة والإذن للناس بمقاضاتها وطلب التعويض منها وتسهيل إجراءات هذه الدعاوى القضائية عليهم لضمان حصول كل متضرر على التعويض المناسب. ويختم الجذلاني حديثه بالتأكيد على مسألة مهمة، وهي أنه من حق كل من ثبتت براءته مما نسب إليه من جرائم ومخالفات خاصة في هذه الكارثة ممن تم سجنهم أو الإساءة إليهم أو التشهير بهم أو غير ذلك من أضرار، من حقهم المطالبة بالتعويض عن تلك الأضرار المادية والمعنوية وهذا حق مشروع لهم.