تعلموا من مهنتهم الصبر وطول البال والتسامح مع زبائنهم، وبعدما كانوا سادة المهنة لا يعدو محل الواحد منهم اليوم مكانا صغيرا ينزوي على استحياء بين المحال الأخرى، حتى أن الاستدلال عليه يحتاج إلى دليل، ولكن عزاءهم أنهم معروفون و زبائنهم لا يأتون إلا وهم يقصدونهم مباشرة. يتحدثون عن المهنية في وقت صارت فيه هذه النغمة شاذة، ويتبسطون في الحديث كأنك تعرفهم منذ زمن، فالسماحة هي عنوان تعاملهم مع الزبائن. إنهم مبيضو الأواني النحاسية (جرة فول، قدور الطبخ النحاسية، دلال القهوة والتحف القديمة). مهنة بالوراثة يقول سعيد سالم يسلم بابطيان (43عاما) كان محل والدي يقع في سوق الذهب القديم في البلد، وقد ورثه عن أبيه، ولهذا حرص على توريث هذه المهنة لأبنائه. كنت ملازما لوالدي من الصغر، حيث اكتفيت بالمرحلة المتوسطة حتى أتفرغ لهذا العمل، ذلك أن محل والدي كان الوحيد المتخصص في تبييض الدلال، وقدور الهريسة، والقدور النحاس الخاصة بالطبخ قديما وجرار الفول.كل هذه الأواني لم يكن هناك من يبيضها سوى والدي، وعندما توفي حللت وباقي إخوتي محله في الإدارة، حيث تم نقله إلى جوار مدرسة الفلاح، بينما فتح أخي الآخر محلا آخر في الرويس. كان الزبائن كثر لدرجة يتعذر معها إنجاز العمل في مدة وجيزة، ولهذا كان الوالد يعطي مواعيد لتبييضها، ونضطر لفتح المحل من الصباح ولغاية الظهر، ثم نعاود فتح المحل من العصر ولغاية المساء. أما أوقات الذروة، فكانت تبدأ من شعبان حيث يكثر من يود تجهيز دلة القهوة أو جرة الفول وأواني الطبخ النحاسية، فيما يأتي الزبائن من مكة والطائف والرياض علاوة على سكان جدة وقراها، فيما يحتاج تبييض هذه الأواني، لطول بال وصبر كبيرين مع يقظة وإتقان دقيقين، فالمسألة لاتخلو من خطورة، خصوصا فيما يتعلق بالمواد المستخدمة في تبييض هذه الأواني مثل (الشب) حيث يتم حرقة ويصدر حينها دخانا كثيفا و لهذا لا يمكن أن تتم عملية استعمال الشب والحرق بالنار في المحل، وإنما في الورشة بعيدا عن المحل، حيث يوضع الشب مع القصدير وإذابته كاملا، ثم رشه على الدله أو جرة الفول أو قدر النحاس، وهذه العملية وحدها بحاجة إلى مهارة فائقة، حيث لا يمكن تنظيف تلك الأواني إلا باستعمال (الأسيد) أو مايسمى ب(تيزاب)، علما بأن دخان ( التيزاب ) هو الأخطر. من أغرب المواقف التي مرت به، يتذكر بابطيان أن أحد الزبائن كان قد أحضر إلى المحل جرة كبيرة طالبا تبييضها، وغاب أربع سنوات توفي خلالها أخي الذي استلم منه الجرة، ثم عاد ليتنازل عنها مسامحا أخي ومعترفا بأن أخطأ لغيابه طوال تلك المدة. ثلاثة في واحد ويقول صالح عبيد الله حمداني (71 عاما): حدث ذلك وأنا في سن الخامسة والعشرين أو الثلاثين، حيث كنت أعمل في محل كان لأخي الكبير المتوفى وأردت قفل المحل لكن كانت لدي الكثير من الدلال و القدور، بعضها كنت أعرف أصحابها، فأعدتها لهم وبعضها الآخر لم استطع الوصول لأصحابها. ولكن بعد مرور تسع سنوات جاء شخص طالبا استعادة قدر طبخ كان من ضمن الأواني التي تصرفت فيها، وعندما أبلغت الرجل بما حصل، توقعت أن يتنازل إلا أنه رفض، وعنما عرضت عليه قيمة القدر رفض أيضا، وأبى إلا أن أحضر له قدره فلم أعثر عليه، ولهذا اشريت له ثلاثة قدور بديلة فلم يقبلها إلا على مضض.