قبيل الإفطار في شقتي الصغيرة في بروكلين، أرقب حصاد اليوم الصحفي الأمريكي وتغطيته المكثفة اليومية في الأسبوعين الماضيين، للجدل المحتدم حول إقامة المركز الإسلامي بالقرب من حطام مركز التجارة العالمي، أو ما بات يعرف البوم بالجراوند زيرو، وأفكر كيف يتحول الجهل والخوف من الغريب الأجنبي إلى وسيلة سهلة في يد العنصريين والمتطرفين للتأثير على الرأي العام، الذي لا يعي أن ما بينه وبين الغريب هو أكثر بكثير من ذلك الذي بينه وبين المحرض على البغضاء، الذي لا يكل من نفث أحقاده حتى بعد تسع سنوات على الكارثة. أحزن وأذكر نفسي أن للبيت ربا يحميه، لابد للحقيقة والنوايا الحسنة أن تربح في النهاية، فالإعلام الليبرالي الأمريكي يواجه اليميني المتعصب في معركة ضروس. أرجع بعدها للتفكير في فطوري القريب هل كان من الأفضل لو فطرت في الخارج في أحد المطاعم العربية ليس رغبة في مائدة عامرة بل من أجل اللمة، لأرقب العمال والعائلات وأشعر بألفة علها تنسيني العراك الحالي وتذكرني بجمال نيويورك وتمازج الأجناس والأعراق الفريد بها، فهي على الرغم من كل شيء لا زالت قبلة المهاجرين الذين صنعوها وجعلوها قبلة للثقافة تنصهر فيها الحضارات ولا تذوب، بل على العكس تحافظ على هويتها وتقولبها لتكون جزءا من الهوية الأمريكية ذاتها. في معرض دفاعه الرائع والبليغ عن بناء المركز الإسلامي، ذكرنا عمدة مدينتنا مايكل بلومبيرغ بتاريخ مدينتنا «أبوابنا مفتوحة للكل، لكل من لديه حلم ما وعزيمة لتحقيقه للعمل بجد حسب القوانين. مدينة نيويورك بنيت بسواعد المهاجرين الذين يأتون من مائة دولة مختلفة، ويتحدثون أكثر من مائتي لغة، ويمارسون ديانات مختلفة». لم أشعر يوما قط بأني غريبة هنا، ليس فقط لأن نيويورك قبلة المهاجرين، بل لأنها تذكرني بتنوعها العرقي بجدة. أبتسم وأفكر كم كان جميلا لو كانت هناك «برحة» في الجوار أرقب فيها إشارة المدفع قبل أن أهرع إلى المنزل لتناول الفطور، لأرجع وأقول في نفسي أن المدفع الذي طالما رقبته وأنا صغيرة في برحة شارع الستين اختفى منذ دهر، وأن الرجل الرائع الوحيد في عائلتي الذي كان يستجيب لتوسلي للوقوف ومشاهدة المدفع، هو خالي الأصغر الذي خطفه الموت منا على حين غرة. الذكريات لا تعاد ولا تستنسخ لذلك فحتى تفاصيلها التي بدت لنا حينها مملة بتكرارها تبدو فريدة عند تذكرها، هكذا تفعل النوستالجيا تخادعنا لننسى الذكريات غير السعيدة وقد تكون الغالبة، ونسترجع أدق تفاصيل تلك اللحظات السريعة التي حظونا عندها بمتعة بريئة. (الخوف يمنع الكثير من الأمريكيين من النسيان وطي صفحة الحادي عشر من سبتمبر والمضي قدما) ويلعب التلفاز دورا كبيرا هنا في تغذيته، في ظل تسلط اليمين الأمريكي على حصة كبيرة من الجمهور الأمريكي وتأليب الرأي العام، ليس ضد المسلمين فقط بل وضد الإدارة الحالية برمتها. فبسببهم أوضحت آخر استطلاعات الرأي، أن عشرين في المائة من الأمريكيين يعتقدون فعلا أن أوباما مسلم. هل يعقل أن يسلم الناس أمورهم لقنوات بغيضة كهذه؟ الإجابة أكيد بنعم، فما تجهله تخافه وتصنع منه وحشا. الخطاب اليميني المتطرف العنصري تختلف فيه الوجوه والسحنات ويبقى أساسه واحدا في كل مكان. لا أعلم لماذا أتذكر برامج رمضان في قناتي التلفزيون السعودي قبل الفضائيات على مائدة الإفطار، كان الطنطاوي شيخ الشاشة الرمضانية بلا منازع، في حين كانت القناة الثانية تعرض المسلسل الأمريكي العائلي فول هاوس «البيت الممتلئ»، وتلحقه بالبرنامج الفكاهي الشهير الذي يعرض أفضل لقطات الفيديو المنزلية الأمريكية المضحكة، لابد أن الغالبية منكم تتذكره، أليس كذلك؟ البرنامج الفكاهي الذي لا يحتاج إلى لغة للفهم كان محط متابعة الأجداد قبل الأحفاد. هل يا ترى تابع المشاركون في تفجير مبنى التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر مع بقيتنا هذا البرنامج المضحك؟ ألم يجعل صورة الأمريكي عندهم أكثر قربا أن يصبغ عليها طابعا إنسانيا مشتركا لعائلات وأطفال وبيت وضحكات؟ الإجابة بالطبع، لا. لأن خطاب الكره والجهل بارع في تحوير الحقائق، لابد أنه اعتمد على مقارنة السعادة الأمريكية هذه بتعاسة بقية العالم وعليه وجب الانتقام في عرفهم، فتحويل الفرح إلى كره هو صنعتهم. بالعودة لإفطاري، أقرر البقاء اليوم وأؤجل الإفطار ليوم آخر، قررت أدعو فيه معارفي النيويوركيين ليقاسموني التمرة والسمبوسة وعصير قمر الدين، على الرغم من كل شيء أنا سعيدة بكوني مواطنة في هذه المدينة الحنون كحضن الجدات الرؤومات الدافئ، فالسطر الذي لامس قلبي من خطاب بلومبيرغ قال فيه: «لو كان والداك مولودين هنا أو أنك وصلت نيويورك البارحة فقط، فأنت نيويوركي». أنظر إلى المدينة من الطابق السادس وصوت عبد الباسط عبد الصمد يغمرني بالسلام. هذا رمضان فريد وأنا بلاشك محظوظة. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 249 مسافة ثم الرسالة