تمضي بنا الأيام سراعاً.. ونحن في غفلة إلى أن توقظنا بعض ساعات الأحزانِ؟ بالأمس كان خبر وفاة الدكتور غازي القصيبي .. ذاك الرجل الذي شغل الناس طويلاً .. فغيبه الموت ضمن حلقات ممتدة من رحيل المبدعين .. وقبل أن نتذكر هذه القامة الفكرية كرجل دولة من الطراز النادر .. ومثقف متعدد المواهب.. سرح بي الفكر بعيدا إلى تاريخ 14/4/2003م عندما سطر رحمه الله مقالة في جريدة الرياض يرثي بها الوالد صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبدالعزيز بعنوان «ماجد ... الرجل ... الذي ملكه الناس». ما زلت احتفظ به كواحد من أجلِ ما كتب فيه يرحمه الله لما أعرفه من قوة العلاقة بينهما ... ولصدقِ تلك المشاعر التي وردت في المقال ... وكما عبر الدكتور غازي بأن الناس عندما ملكوا ماجداً ... لم يكن ذلك إلا من خلالِ عشقه للتواضع .. وأنفه من الكبر ... وبخلقه ونبله .. وبقلبه المفتوح للجميع ... وبامتداد يده للعطاء ... وبلسانه لقولِ الخير ... وبابتسامته التي لا تنقطع ... وبإخفائه لحزنهِ من أجلِ إسعاد الآخرين .. هاهم الناس أحبوا غازياً .. كرجل خدم بلده بكلِ ما استطاع... قيل عنه الكثير في حياته ... وسيقال الكثير عنه بعد وفاته... لكن الجميع متفقون على أنه شخص غير عادي ... حتى بعد وفاته .. معظم الذين خاصموه وناوؤه تراجعوا ... واعترفوا بقدراته ... وكل الذين أحبوه ورأوا فيه ذلك الرجل الصادق سيستمرون له بالوفاء .. كقامة فكرية متميزة ... وصاحب حضور إعلامي وثقافي مؤثر.. لقد تخطى حدود الجغرافيا ليصل إلى العالم أجمع .. وترك لنا سيرة متعددة الإبداع ... فجاء واحداً من رجالِ الدولة شاهداً على فترة من فترات البناء ... ومشاركا فيها .. لم يتوقف طموحه عند حد بقدر دفع وطنه نحو المستقبلِ... فجاء قبوله من أربعة من أعظم ملوك هذا البلد... ولم يختلف أحد على قدراته ... وصدقه ... ونزاهته ... وتفانيه ... في العمل ... وثقته في مواجهة التحديات ... توفي غازي ... هكذا شاءت إرادة الله ... وحكمه لا يرد ... ولكن يظل السؤال قائماً ... لماذا حزن الجميع على وفاته؟ ابتداء من نعيِ الديوان الملكي ... إلى جميع أفراد الشعب السعودي ... إنه التعبير عن الحب الصادق !!! وقبوله لسيرة رجل خدم بلاده بكلِ ما أوتي من قدرة وإبداع ... والتأكيد على أن مثل مواهبه قل أن تجتمع في رجل ... ها هو يودع الحياة الفانية ... ليتوقف بعد معاناة مع المرض... تاركا لنا رصيداً من الشعر نتلذذ بقراءته .. وكماً من الروايات تعكس واقعنا ... وسيرة ذاتية في الإدارة تعلمنا كيف يكون النجاح ... وأضاء بنقده المباشر طريق حياتنا ... وسيظل مثيراً للجدلِ حتى بعد وفاته ... لقد رفع راية العلم أولا ... منذ أن أصدر ديوانه «معركة بلا راية» ... حينما ترك خصومه يتجادلون مع فكره ... لقد رحل عن دنيانا ... ولكنه لم يرحل عن ذاكرتنا ... كان يتصف بالشجاعة في الرأيِ .. ويناضل من أجلِ تحقيقِ أهدافه المعلنة ... ولم يخدش سيرته بما يمس كرامتها ... حتى اتفق خصومه قبل محبيه على نزاهته .. ولهذا كانت محبة الناس له ... فكبر بعيونهِم حياً وميتاً ... إنه رجل الفكر ... ورجل المواقف ... ورجل الصدقِ ... ورجل الإدارة. حتى عده الناس «استثناء» عمل بوضوح ... وعاش بوضوح ... وبنى مواقفه بوضوح ... لقد جمع رحمه الله بين استقلالية المثقف .. ووعيِ المسؤولِ ... من خلالِ قدرته على التوازنِ ... فنال بهذا شرف محبة الناس ... لم يتوقف عطاؤه في حياته ... بل استمر حتى لحظة وفاته ... حيث ترك أعظم رسالة لكلِ مسؤول ... بأن لا شيء يحفظ قيمة الإنسانِ مثل نزاهته ... وأن حب الناس لا يعادله ثمن ... فهو الذي يبقى ... أبا يارا بوفاتك تنقضيِ صفحة من صفحات الفكر ... ويفقد الوطن أحد رموزه الكبيرة ... من خلالِ حياته الحافلة بالعطاءات .... وإرثه المليء بالإنجازات .... فرحم الله هذا العملاق ... وجمعنا به في دار كرامته ... وهكذا يكون رحيل الكبار ... الذين يحاربون الزيف والفساد ... ويجعلون من ولائهِم لوطنهِم حديثاً .... حتى أسر الناس بحبهِم له ... وألف القلوب وجمعها عند وفاته ... وإنا بفراقك يا غازي لمحزونون .... * أمير منطقة المدينة المنورة